سيدي براني.. حكاية الجد الذي يعيش في كل الأزمنة
وليد فكري - بص وطل
"محمد صلاح العزب" يطرق عالم اللامعقول من خلال روايته "سيدي براني"
قصة تبدأ برجل عجوز يموت ويُدفَن، ثم يصحو أهل قريته فيجدون ثيابه التي دُفِنَ فيها ملقاة فوق سطح القبر.. ثم نعلم أن هذا الرجل كانت بداية قصته أنه وُجِدَ على ضفة النهر طفلاً في الرابعة من عمره له لحية وشارب، ويمكنه أن يعاشر النساء!نفس الرجل الذي تعرف عنه -من بداية الرواية- أنه عاش ومات أكثر من مرة, وأن له أكثر من شخصية وأكثر من حياة في أكثر من مكان!إنها الطريقة التي قرر "محمد صلاح العزب" أن يطرق بها عالم اللامعقول من خلال روايته الرائعة "سيدي براني" التي تحرّر فيها من قوانين الطبيعة وسلَّم نفسه -وقلمه- لتيار الخيال الجارف، ومع منافاته الصارخة للمنطق أخرج عملاً ممتعاً كتلك الرواية.
لغز الجد العجيب الذي عاش أكثر من مرة!
راوي الأحداث شاب عاش حياة غير عادية في بلدة "سيدي براني" الواقعة أقصى شمال غرب مصر قُرب الحدود مع ليبيا, عاش في محيط ضيّق من الناس.. "سمعان" العجوز الذي جاء في شبابه من أقصى الجنوب بحثاً عن الرزق, الخالة "طيبة" البدوية العجوز التي رعت الراوي كأم منذ كان رضيعاً, والجَد الوليّ الأسطوري الذي أصبح "سمعان" مريده المطيع وخادمه المخلص, والذي كفل حفيده ورعاه وحمّله بالحكايات والألغاز؛ حتى قرر أن يرويها لـ"مريم", وهي فتاة وافدة من المدينة ملكت عليه قلبه؛ حتى قرر أن يبوح لها بالمكنون في صدره من حكايات الجد العجيب.والجد ليس وحده من يحمل الحكايات؛ فلكل شخص ممن يحيطون بالراوي حكايته الخاصة, التي ترتبط بشكل أو بآخر بحكاية الجد ورحلته الفريدة من نوعها.. والفتى لا يملّ التنقيب في صدور من حوله عن المزيد من الحكايات المذهلة له وللقارئ.شوارع باريس، ملاهي الليل في القاهرة، الصحراء الغربية الشاسعة، جزر الهند، وأماكن أخرى أسطورية لا نجدها إلا في عوالم ألف ليلة وليلة؛ حيث السحر هو العلم والأسطورة هي المنطق.. هذه هي الأماكن التي تحملنا إليها تلك الرواية؛ حيث عاش الجد في كل مكان منها إحدى حيواته المثيرة؛ منها ما سبق انتقاله بينها موتاً تبعته بعثة له من قبره لحياة جديدة, ومنها ما كان انتقاله إليها مجرد هجرة مكانية.. ولكن العامل المشترك بين تلك "الهجرات" كان أنه يحمل في كل منها شخصية مختلفة.والجدّ نفسه لغز كبير؛ فهو تارة صبي لقيط غامض, ومرة ثانية حاكم لجزيرة كل سكانها من النساء, وهو أحياناً جيولوجي باحث عن البترول, ثم زعيماً مُدّعياً للنبوة, وأخرى شيخاً وليّاً صاحب بركات.. وهو مع كل ذلك أب وجد لعدد ضخم من الأبناء والأحفاد, يحرص على تلقّي كل منهم على يديه عند الميلاد, ثم يهمس له في أذنه بما يعرف عنه من المكتوب.. أما عن سرّ عمره الطويل الممتد وحيواته المقسمة بفواصل من الموت المؤقت؛ فهو يبقى ممتداً حتى آخر سطور الرواية.. وطوال كل حيواته لم يعرف أحد اسمه حتى أقرب الناس إليه؛ فهو -على حد قول "سمعان"- لو باح باسمه يموت.. وكذلك لو أفصح عن سره.وتبقينا الرواية في حيرة من أمر الجد, هل هو وليّ، ملاك ساقط، شيطان تائب؟ هل هو كائن لم تُحدّثنا عنه الكتب القديمة؟
الفضول البشري والولع بغير المألوف
"محمد صلاح العزب" لعب ببراعة على أوتار الفضول البشري والولع الطبيعي بغير المألوف، وبالخروج على قوانين الحياة الرتيبة, ومزج في عمله بين مختلف المفردات لمختلف الأماكن والأزمنة؛ ليُخرج مزيجاً متناسقاً ويصنع بنفسه عالماً متميزاً من حيث الزمان والمكان والأشخاص. كما أنه قام ببراعة بربط خيوط العلاقات بين الشخصيات في مختلف القصص المرتبطة بالجد وبها, وصاغ كل شخصية منها -سواء أساسية أو جانبية- بدقة شديدة جعلت لكل منها أبعاداً ملموسة وحضوراً محسوساً دون أن نشعر أن منها ما هو باهت الوجود أو مبالغاً في بروزه لسطح الأحداث. وكل ذلك يدلّ على حِرَفيّة وبراعة شديدة من "العزب", ذكّرَتني بمثيلتها عند الأستاذ جمال الغيطاني الذي برع في تقديم هذا النوع من أدب العوالم السحرية.وبالإضافة لذلك؛ فإن الكاتب لم يهتمّ أو يسعى لتقديم الإجابات لكل التساؤلات التي تثيرها الرواية؛ بل كان حرصه الأكبر على تغذية تلك التساؤلات واستفزاز ذهن القارئ لفكّ ألغاز الأحداث والأشخاص؛ بحيث إن كل من يقرأ العمل سيرى الأمور ويفسّرها بطريقة تختلف عن الآخر, وهي مهارة وموهبة تستحق الإعجاب."سيدي براني" عملٌ يستحق أن يُقال عنه إنه إضافة للأدب العربي الحديث, وللمكتبة العربية, وأعتقد جدياً -ودون مجاملة أو مبالغة- أن هذه الرواية تقول إن علينا أن نتوقع سماع اسم "محمد صلاح العزب" بشكل أكثر قوة، مستقبلاً إن شاء الله؛ خصوصاً في مجال فنّ صياغة العوالم السحرية والأحداث الأسطورية.