الجمعة، ٢١ مارس ٢٠٠٨




قعدة!


جلسنا على المقهى الصغير في الشارع الخلفي، وساد صمت قطعه صديقي المتأمل سائلا:
- إلى أين يذهب سلم الخدامين؟
عيناه كانتا معلقتان بالسلم الحديدي الدائري الضيق الملتصق بظهر العمارة الكبيرة المقابلة.
صديقنا صاحب الخيال فكّر مليا ثم قال:
- يصعد إلى السماء.
نفث دخان الشيشة من أنفه وفمه راضيا تماما عن هذه الإجابة.
صديقنا الذي لا يحب لعب الدومينو، ويفضل عليه احتساء مشروبات ساخنة طوال الوقت قال:
- لكن هذا السلم ضيق جدا.. والفرق بين درجاته كبير.. لابد أن من يصعد عليه يتعب.
الوقت كان متأخرا جدا، وقد سرت لسعة برد في الجو، نفخ صديقنا المتأمل في يده، ورد عليه:
- واضح أن السلم لم يصعد عليه أحد منذ فترة طويلة.
وأشار بإصبعه إلى أكوام القمامة المتراكمة عليه، والقطط والكلاب الكثيرة المتجمعة حوله، ثم تكلم لمدة ربع الساعة عن الأثرياء والفقراء، والسلم الاجتماعي، وانقراض طبقة "الخدامين" وزوال السبب الذي أنشئت من أجله هذه السلالم، كنا نسمع باهتمام شديد، ويهز كل منا رأسه موافقا بالتتابع، وصبي المقهى يدور حولنا يكنس الأرض بمقشة قديمة، محاولا استراق السمع حتى يفهم، صديقنا محب المشروبات الساخنة قال:
- لقد ألغيت هذه السلالم، لأننا تحولنا كلنا إلى خدامين.. الأثرياء حاليا يا سادة يستقلون المصاعد التي تقدر سرعتها بالمتر في الثانية.
صديقنا صاحب الخيال أطلق كمية كبيرة من الدخان ثم قال:
- للسلالم الخلفية ثلاث مزايا على الأقل.. وإلا لما صنعت بهذا الإتقان وهذه الدقة.. سر هذه المزايا عند أول من فكر في صنعها بهذه الطريقة الملتوية التي تصيب من يصعد فيها بالدوار.
حكى المتأمل قصة عن خادم وجد كنزا، فبنى عمارة كبيرة سكن بمفرده في الطابق الأخير منها، وجعل بها سلما واحدا للخدامين، وحين سأله أصدقاؤه قال إنه يكره السلالم المتسعة لأن المرء يتوه فيها ويفقد توازنه!
صديقنا محب المشروبات نادى على النادل ذي الملابس المهترئة، والمريلة المتسخة، وطلب قرفة بالزنجبيل، فقال له الولد:
- بقول لكم إيه يا أفندية يللا عشان احنا خلاص هنقفل.

الأربعاء، ١٢ مارس ٢٠٠٨






اطفي النور




الخروج من الأبواب الضيقة شيء رائع.
الكل يحلم بالخروج من الأبواب الضيقة، وهو حلم مشروع وجميل، وليس على أحد جناح إذا قرر الخروج منها.
المشكلة أن هذه الخنقة تحولت إلى ظاهرة، كل ما ترى واحدا مكتئبا وتسأله:
- مالك؟
يرد عليك وقد قلب ملامح وجهه مثل قطعة قماش قديمة في مسمط:
- نفسي يا أخي أخرج من الأبواب الضيقة.
هذه الحالة العامة جعلت مطربا كبيرا مثل "محمد منير" يغني أغنيته الشهيرة: "اخرج م البيبان الحر الضيقة".
كل ما أسمع هذه الأغنية أشعر أنني أريد أن أتمشى على النيل أمام "رمسيس هيلتون" بمفردي مستمتعا للغاية بزهقي، وليس لدي أي براح نفسي أو عاطفي لأي شيء ولا حتى للنظر إلى بنت ألمانية طويلة وجذابة ترتدي ما يمكن أن نطلق عليه بنوع من المبالغة "لباس بحر".
حالة الأبواب الضيقة هذه تنتابني كثيرا خصوصا في الصيف، لكن فكرة الخروج منها لا تكون متاحة دائما، فالحياة لا تمنح الواحد منا رفاهية السير على الكورنيش 4 أو 5 مرات أسبوعيا، خصوصا أن البنت الألمانية التي لا تفرق بين شاطئ نهر وشاطئ بحر لن تكون موجودة دائما.
لكن يظل حل سحري للمشكلة لم يتوصل إليه "محمد منير"، وأقترح عليه أن يضعه في حسبانه في ألبوماته القادمة.
أول ما تنتابك حالة الأبواب الضيقة، أغلق عليك الباب من الداخل بالمفتاح جيدا (6 سَكَّات لو أمكن)، أغلق هاتفك المحمول، انزع فيشة تليفون البيت، أطفئ نور الشقة كله، اخلع ملابسك بالكامل، اصعد على السرير، تمدد على ظهرك، افرد ذراعيك على آخرهما، أفسح قليلا بين قدميك، بحيث يبدو شكلك النهائي كمصلوب ليست لديه خبرة كافية، أغمض عينيك بقوة، استرخ، لا تفكر في أي شيء، وخصوصا البنت الألمانية (من أدراك أنها ألمانية أصلا)، اصرخ بأعلى صوتك:
- يعني إيه أصلا البيبان الضيقة؟ المكان هو اللي بيبقى واسع أو ضيق، لكن البيبان مجرد ممر.. ما فيش حاجة اسمها البيبان الضيقة.
خلاص؟
يمكنك أن تضيء النور.

الأحد، ٢ مارس ٢٠٠٨



نمرة غلط


هناك شخص ما، في مكان ما في مصر اسمه: "الحاج سيد العجوز الحلاق".
من حوالي 6 سنوات اشتريت خط الموبايل الذي ما زال معي حتى الآن، أول ما اشتريته لم يكن أحد يكلمني على الإطلاق، وفجأة بعد حوالي 4 أيام رن الموبايل، فكدت من شدة الفرح أن أتركه يرن حتى أستمتع بنغمته الشجية، في النهاية تمالكت نفسي ورددت، جاء الصوت بعيدًا:
- أيوه يا حاج.
- حاج مين يا عم؟
- الحاج سيد.
- سيد مين؟
- سيد العجوز.
- العجوز مين؟
- الحلاّق.
- لأ والله النمرة غلط.
كنت متألما بشدة وأنا أغلق الخط، أول القصيدة نمرة غلط.. طيب.
بعد ذلك لم يكن يمر شهر تقريبا حتى يتصل واحد ويطلب "الحاج سيد"، إلا أن هناك واحدًا طلبني 8 مرات متتالية، بمجرد ما أقفل معه يتصل مرة أخرى، في آخر مرة سألته: انت طالب كام؟
عرفت أن نمرة "الحاج سيد العجوز" تتفق معي في كل الأرقام إلا أن آخر رقمه 9161 وأنا آخر رقمي 6191.
المشكلة أن الحاج سيد له أصدقاء كثيرون مقربون يتصلون بي، وبمجرد أن أرد أجد شتيمة قفزت في أذني، أسترد صوني بعد الصدمة وأقول: نعم؟!
يرد علي الصوت الآخر: مش انت الحاج سيد؟
وقبل أن أرد يغلق السكة في وجهي.
مر وقت طويل جدا منذ كلمني آخر واحد وسأل عن "الحاج سيد"، لدرجة أنني افتقدته بشدة، وصرت مهتما به بطريقة مختلفة، ولأول مرة أحاول تخيله فأتخيل محل حلاقة صغير، بداخله رجل عجوز فعلا، ضئيل الجسد يمزح طوال الوقت مع الزبائن.
تولد لدي إحساس بأن "الحاج سيد" أصابه مكروه.
ضبطت نفسي أكثر من مرة أمسك بموبايلي وأضغط رقم هاتفي عليه كأنني سأكلم نفسي، إلا أنني أعكس الأرقام الأربعة الأخيرة، وأطلب، في اللحظة الأخيرة أغلق الخط قبل أن يعطيه أي رنة؛ لأنني لآ أعرف ماذا سأقول له حين يرد، خصوصا أن هناك احتمالا قويا أن يرد علي شخص آخر تماما ويقول لي:
- النمرة غلط.