الجمعة، ٢٣ مارس ٢٠٠٧

مجتزأ من روايتي الأولى







سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء

"لا يوجد أب طيب، تلك هي القاعدة، ولكن يجب ألا نلوم الرجال، بل نلوم رباط الأبوة المتعفن"
جان بول سارتر


المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر.. المطر............. عشرات.. مئات.. ألوف.. ملايين القطرات، عرق.. بول.. دماء.. قيء.. مني ……… تتقزز.
القطرات الثقيلة تتهاوى على قفاك، تصفعك بحنكة مخبر شرطة عتيد.
كل الدنيا تصفعك :
جيوبك الخاوية.
صبي المقهى القابع في ظلام الركن منتظرا لحظة انفصال مؤخرتك عن قاعدة الكرسي المكسورة.
نصف كوب الشاي البارد الذي تبقيه كذريعة مُرَّة سوداء لبقائك.
الشوارع المظلمة الموحلة.
سيارات الدورية المتناثرة بالخارج كحجارة الطريق.
غرفتك الكئيبة.
أبوك الذي تعلم أن ينتظرك خلف الباب بمجرد أن تطرق :
«أهلا بالخيبة.. ضائع ومتشرد.. ثلاثين سنة ومفضوح ابن مفضوحة.. عاطل وسكري.. وأبوك يصرف عليك.. كل هذا وليس في وجه البعيد نقطة دم.. لما ترجع وتدب في بيوت الناس المحترمين كل ليلة وقت الفجر».
لم يبق في المقهى سواك، يوليك عامل المقهى ظهره ليطفئ التليفزيون، بقامته القصيرة ومشيته المتأرجحة يهرول إليك، يعترضك صامتا، رافعا عينيه نحوك، ضوء المصباح الخافت الأصفر يبرق باهتا فوق صلعته الواسعة، تمرر أصابعك على شعرك، تخزك الأسلاك الشائكة في كفك المتثلجة، تنزل يدك، تهز له كتفيك:
«قيد على الحساب».
يصيح، يهتز، يؤرجح يده مع تقلص ملامحه وانبعاجها، يأتي جلباب صاحب المقهى من خلف المكتب العتيق يكنس الأرض، يشتركان في صخب لا تسمعه، وأنت محبوس داخل قفص زجاجي يؤديان حركاتهما أمامه، تشعر أنهما قد انتهيا، تدس يديك في جيبي سروالك.. وتخرج.
عرض يومي لا يهددك كثيرا. بصعوبة تنقل حذاءك المثقوب في أكثر من موضع بين البحيرات السوداء الكثيرة التي خلَّفها المطر، تدور من شوارع جانبية ضيقة ملتوية، تاركا الشارع العمومي الذي ينتظرك فيه، يبدو أصغر منك سنا، وسيما، نظيفا، كأنه النموذج الأساسي الذي كان مفروضا أن يكون عليه البشر. في المرة الأخيرة ظل يصفعك على جانب رقبتك باستخفاف:
«ضروري أن يمر الباشا علينا كل ليلة ليلقي تحية الفجر ؟».

بصعوبة تنزع بطاقتك المهترئة، تقبض عليها بيدك محاولا رفعها، لا يلتفت إلى حركتك المكشوفة :
«أنت يا ابن القحبة شايف العسكري الواقف خلفي مزاجه مع الرجال.. وحياة أمك لو شفت سحنتك المسلوقة مرة ثانية لتركته عليك».
ودفعك من قفاك بقوة عشر صفعات، تاركا لك مجالا من الخيال لكي تقسمها بنفسك، يمتلئ حذاؤك بالماء القذر.
تفكر في أن تنتظر الصباح حتى ينزل أبوك. الدنيا ساكتة ومغسولة، وصوت الحذاء لدى انفصاله والتصاقه بالطين درامي إلى حد كبير.
يصرفك صوت أمعائك عن الانتباه إلى أي شيء آخر.
يلوح بيتكم من بعيد، خمسة طوابق، في كل طابق أربع شقق، خلف الشيش الأخضر المغلق في الثالث حجرتك، حجرة أبيك خلف الشرفة، تنتبه للمرة الأولى إلى تساقط معظم طلائها الذي يصعب على من لم يره وهو أخضر زاهٍ أن يخمن الآن لونه الأساسي.
الحجرة الثالثة التي تنام فيها أختك الآن لا نافذة لها على الشارع، إنما نافذة صغيرة ذات قضبان حديدية مفتوحة على المنور.
تقترب، تلمح بوابة البيت، قصيرة، ضيقة، متهدمة، مظلمة، ذات باب صدئ، تَلِج، تداهمك الرائحة المقبضة، الظلام، وصوت خرير ماء متقطع يقتحمك، ينفذ فيك، يبللك، ترتعش، تبصق وأنت تتلمس مواطئ قدمك مستندا بقوة على السور الواطئ محاذرا من التعثر والارتطام، تتجاوز الأرضي والسلم، تضع رجلك على بسطة الثاني، تنقل قدميك في حذر، فجأة تشعر بقدمك تغوص في كومة طرية، يصرخ القط الذي لا تراه، يتسلق ساقك ناشبا أظفاره في نسيج السروال، تنفذ إلى لحمك، تفزع، تقذف به برجلك في غل وقوة، فتسمع صوت ارتطامه بالباب المواجه مدويا وسط كل هذا السكون.
تفتح الست ناهد بابها، تلمح ذعرها، تهم بأن تستحضر صوتك لتقول لها شيئا، لا تترك لك حتى فرصة الإشارة بيدك:
«سي يحيي ؟ لماذا تخبط الباب هكذا ؟ في هذا الوقت؟ ماذا تظنني؟ أم لأني أعيش بمفردي ؟».
بتتابع يفزعك يضاء مصباح.. ومصباح.. ومصباح، أمامك.. خلفك.. جنبك، تسمع تكتكات فتح المزاليج بتتابع أسرع، تحيط بك الرءوس من فوق.. من تحت.. من حولك، متراصة فوق بعضها من خلال فرجات الأبواب، متدرجة بتدرج السلالم التي يقفون عليها، أعين واسعة، محدقة، تتجاوزك لتتحسس اللحم الأبيض، ثم ترتد إليك محاولة تخيل مدي ملاءمة ملامحك الباهتة الشهباء بشعرك ورموشك وحاجبيك وشاربك الناصعة، وحدقتيك الحمراوين كعيني أرنب، ملابسك القديمة المتسخة الرثة المبتلة، فكرتهم القديمة عنك لهذا البياض المترجرج في القميص الأسود، يستكثرون عليك كل هذا، يتخيل كل واحد منهم نفسه مكانك في تلك الصورة، فيبدءون :
«لا يا يحيي أفندي.. عيب».
«بيتنا بيت محترم.. كله إلا هذه الأشياء».
«أبوك رجل مستقيم وفي حاله».
«ولم نر منه العيبة».
« ……………….»
« ……………… ».
« ………………».
تلمح رأس أبيك تطل من أعلى، تفرك آثار نعاس لم يتمكن بعد.
«يرضيك ما يفعله ابنك يا عم أبو يحيي».
من أعلى يسقط صوت أبيك معدني، حاد، مسنون، يهوي فيبتر كل نظراتهم، تخيلاتهم، عباراتهم المقززة:
«أنت يا ابن الوسخة أنا تعبت معك.. رجلك النجسة لا تضعها في هذا البيت مرة ثانية.. وسحنتك المقرفة لا أريد أن أراها حتى أموت».
صمت طويل يعيدك إلى داخل صندوقك الزجاجي، تشعر بهم يبتعدون، يكبرون، يتضخمون، وأنت تتضاءل، وصوت صفير حاد يرتفع في أذنيك، تتضاءل، تتلاشي، ولا يبقى أمامك إلا الوجوه المحدقة تدور، تتداخل مع قضبان شراعات الأبواب، وطلاء حائط السلم المسود، وأشعة المصابيح العديدة كشموس محرقة، وملابس النوم، كل هذا يدور، يتداخل، وأنت مختف، غير موجود، بينما القط الرمادي ملتف حول نفسه، مغمض العينين في نعاس مفتعل.
● ● ●

بمجرد أن يلامس نعل حذائك طين الشارع ينقطع النور، تبصق، تعجز عن تبين أي شيء في ذلك الظلام، فيما تلح على ذهنك صورة أولئك النائمين على الدكك الخشبية في مواقف الأتوبيسات ليلا، بعضهم يبدو محترما جدا، مما دفعك إلى التساؤل لمدة طويلة : لماذا ينام رجل ببدلة كاملة وربطة عنق هكذا وحذاؤه تحت رأسه ؟!
يتشرب حذاؤك الماء بسرعة عجيبة، تتجمد أصابع قدميك، تحاول تحسس مواضع الوحل والطين الزلق، يعثِّرك الظلام الأسود المحيط، فيتلطخ سروالك بالطين والبلل.
تفكر في أي شخص، أي واحد تستطيع أن تقصده عندما يطلع الصباح، بقدميك الموحلتين تطأ ذاكرتك.. ببطء.. ببطء؛ حتى لا تتجاوز أحدا، أو تبلله، لن تتمكن من الضحك على نفسك طويلا.. لا أحد، تعرف هذا من البداية، موقن من أنك وحيد كبصقة.
كل هؤلاء الناس المستريحين، الطاعمين، النائمين خلف الجدران في الدفء وفي أحضان النساء أنت لا تعرف أي واحد منهم بحيث يمكنك أن تقول له أفسح لي قليلا، فأنا متعب، وطريد، وجائع، وميت من البرد.
صوت شخيرهم المفترض ممتزجا بالصقيع يخترقك كمخالب مدببة، من قدميك حتى رقبتك، تختنق، فيما يؤلمك صوت خطواتك الرتيب.
فجأة يسطع الأزرق ملونا المباني، آتيا من منتصف المسافة غير الطويلة التي تفصلك عن نهاية الشارع، يبرق بسرعة شديدة، دائرية، مجنونة (كيف لم تنتبه إليه وهو في أول الطريق؟)، قبل أن تستوعب تتداخل الأصوات في سقف رأسك:
مكابح السيارة بصرير يفزعك، وهي تزحف نحوك بحركة دائرية أنت مركزها.
صوت الضابط النموذج: «هاتوا لي ابن القحبة هذا».
صوت انفتاح البابين الخلفيين للسيارة البيضاء، فتتبين من أحدهما ذلك العسكري الشاذ، تنطلق في الجري، (لم تفعل شيئا، ما لهم بك أولاد الكلب هؤلاء ؟!) تختفي المباني من حولك، يتلاشى نصفك العلوي، كل أعضائك تتحور إلى عَدْو، دقات قلبك في قدميك، رأسك المرتجة في قدميك، والرياح تصفر حولك. يرتفع صوت صرير الإطارات مرة أخري والسيارة تنطلق مسرعة خلفك فتعرج أنت إلى شارع جانبي ضيق، تصرخ المكابح، وصوت ارتطام الأحذية الميرية بالأرض مطارق تهوي على قلبك برتابة الموسيقى التصويرية لأفلام الرعب القديمة، تتنفس بصعوبة، المرة الوحيدة في حياتك التي تجري فيها، حتى وأنت صغير لم تجر. لكن كيف جريت هكذا ؟ لماذا جريت؟ لو وقفت؟ أنت الآن مشرد، لو أمسكوا بك لآواك القسم، جدران الحجز أضيق من هذه الزنزانة الواسعة، لابد أنهم يقدمون طعاما، ويمكنك أن تنام مستدفئا بحرارة الأنفاس.
تقف، تبحث عن زيِّهما الأسود وسط هذه الحلكة، ليس سوى الكلاب الكثيرة التي لم تأنس لوجودك فظلت تنبح عن بعد مسافة الاستكشاف.
متعب، جائع، تنقل قدميك المتجمدتين في وهن، تخرج إلى الشارع الكبير الموازي لذلك الذي احتلته سيارة الضوء الأزرق. لا ترتاح لانفرادك هكذا وسط الشارع الواسع الخالي المضاء بالأعمدة الصفراء، تسير إلى جوار الحائط قليلا، ثم تخرج إلى أول فتحة جانبية تقابلك.
«الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر... الله أكبر...».
عشرات «الله أكبر» عالية من مكبرات الصوت لجوامع كثيرة، تتعانق في إجلال يؤلمك أنه لا يَمَسُّك برغم كربك.
تلمحه كشبح آت من بعيد، يقترب باقترابك منه كما لو كان نقطة ثابتة، مع أنك تراه يمشي باتجاهك. لا يهتم بالأذانات العالية المتكررة، يرفع صوته إلى أقصى قوته محاولا ألا يعيقه الصوت الآخر :
«الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها».
كالحجر تهبط الفكرة على رأسك، تتلفت حولك، ترفع رأسك إلى النوافذ والشرفات المتقابلة في شبه التصاق. يغريك ترنحه الشديد، ضآلته، شعره الأبيض، ضعفه البادي، فتستل قلمك الجاف من جيب البطاقة الخلفي، تفتح أزرار قميصك العلوية محاولا إقناع نفسك بأن هيئتك الآن تصلح لأن تكون باعثا على الخوف، أو حتى الارتباك.
تفاجأ به أمامك، لا يفصلك عنه سوي رائحة الخمر القوية المنبعثة من فمه وثيابه، تضطرب ويجتاحك خوف شديد. تحاول أن تحرك يدك تشير له بها معتذرا، أن تستجمع صوتك لتقول له شيئا، تسأله عن الساعة مثلا وتمضي.
يرعبك الرعب في وجهه، ويسمِّرك في مكانك تحوله إلى تمثال له عين مذعورة، نصف واعية ونصف تستجدي الوعي. تشعر بأن اللحظة لن تمر، وأن الوقت مات، وأنت أمامه كورقة، لو صرخ فيك لارتعدت.
أكثر من ضعفك يؤلمك ضعفه، كل ما تريد منه الآن أن يكون قويا بما فيه الكفاية ؛ حتى ينهي هذا الموقف العصيب.
كمن استرد كامل وعيه مرة واحدة، يدس يده في جيب سترته الداخلي (هل سيخرج ما يقتلك به؟) تتشبث بهذه الفكرة، في البداية تخاف، ما تلبث أن ترتاح لها، تكاد ترجوه أن ينهي ذلك ولو بهذه الطريقة. قبضة يدك المدلاة إلى جانبك تضغط على القلم بقوة محاولة تفريغ توترك، يخرج يده، تسمع صوت تكتكة تكسر بلاستيك القلم، نقود، يمدها إليك، لا تستطيع رفع يدك، ينزل هو بيده، يدسها في كفك متوسلا بها، محاولا طمأنة نفسه أن الأمر انتهي هكذا ببساطة، وأنك لن تؤذيه.
لم يخطر ببالك أن الأمر سهل إلى هذا الحد، طمعت في جنيهات لتأكل أما كل هذه الأوراق الكبيرة!
ببطء مترقب مطلي بالخوف يتجاوزك، يرجع خطوتين بظهره ووجهه لك، بسرعة يستدير ولمحة فرح ممتنة لك في عينيه. قبل أن تفيق تجده قد صار بعيدا بمسافة كافية لـ «طالعة تنورها» بصوت عال مترنح يخفت تدريجيا حتى يصمت.
واقف في مكانك لا تزال، يدك تقبض على الأموال بقوة، للحظة تراودك فكرة أن تسرع وراءه، تشعر بحذائك يدوس بقايا القلم المتكسر على الأرض، وعشرات: «الصلاة خير من النوم» تتداخل متعانقة فوق سماء المدينة الغارقة في موت عميق.
● ● ●

يطمئن إلى الملمس الناعم المتماسك للنقود الجديدة في جيبه، يسير في بطء محاولا التجرد من جسده المتعب الجائع المبتل.
يبحث عن أي مكان يمكنه أن يأكل فيه، كل أبواب الدكاكين الحمراء، والزرقاء، والصدئة، والملونة موصدة في وجهه: «الراحة الجمعة»، «مغلق للصلاة»، «مواعيد العمل.......».
● ● ●
صفعات العيال على قفاك تؤلمك، تؤلمك أكثر ابتسامتك البلهاء لهم في مداهنة تدفعهم إلى المزيد من الصفعات، والركلات، والحركات الأخرى البذيئة.
تحاول أن تنضم إلى إحدى عصاباتهم، تتقدم صامتا وتندس في وسطهم، بمجرد أن تفعل ذلك (لا تدري لماذا) يكتشفون لعبة جديدة لا يمكنك مشاركتهم فيها إلا بالانزواء بجوار حجرة عم عبده الفراش في ركن الفناء، وتظل تبكي.
عصي المدرسين أيضا تألفك، أول يوم تذهب فيه إلى المدرسة، تبكي لأمك كثيرا عند البوابة، تستحلفها برحمة النبي، وبالمصحف الشريف، وبالكعبة، والجلباب الغامق الواسع المتسخ يأتي من خلفك، يجرجرك إلى الداخل :
«توكلي على الله يا ست.. امشي من هنا حتى لا يمسك فيك».
تتخلى أمك عنك لذراعي عم عبده، تجد نفسك وحيدا في مكان غريب صاخب بالحركة، كل ملابسه بيج فاتح، ثم بني محروق بأسفل، يرص الجرس كل هذا الهرج في صفوف، ويضعك في آخر واحد منها.
تدخل الفصل، بمجرد أن تستقر في الدكة الأخيرة تبول على نفسك، يتركونك بمفردك في دكة واسعة، وهم يتزاحمون كل أربعة أو خمسة في واحدة، يتجمعون من حولك، كلهم، في دائرة ضيقة مزدحمة، يتنادون، يمد كل واحد عينيه ليرى دائرة الماء الأصفر، ثم يفسح المكان لآخر.
دامع، بائس، مبتل، مرعوب، محشور في دكة واسعة، وخمسون أو ستون فما لا تعرفه يرددون في نفس واحد :
«أبو شخه أهو أهو».
الماء الحارق ممتد بطول فخذيك وساقيك، يؤلمك، يتجمع في النهاية في الحذاء البلاستيكي الجديد، الذي ما زال يجرحك عند الكعبين برغم أن أمك قد أزالت البروز الزائد بالموسي.
ينفض من حولك جمعهم، ليحل بدلا منه الوجه ذو الشارب، والعصا، والدفتر المكسو بجلد أسود.
«واحد».
«اثنين».
وأنت تفتح كفيك بآلية.
«ثلاثة».
منذ دخلت الفصل وأنت تبكي، لكنك تستأنف بكاء جديدا.
«خمسة».
يحاصرك الألم من كل قطعة فيك، والضجيج من حولك لا يتوقف، طنين ذباب يسكته صوته:
«من يريد أن يذهب إلى الحمام يرفع يده ويستأذن.. أي واحد سيبول على نفسه سيضرب على قدميه.. وسأجعله يلحس القرف الذي عمله».
في الدكة الواسعة بمفردك، تشعر أنك عار تماما، وأنهم رأوك على عريك، تتمنى لو يختفون من أمامك، لو يموتون.
ظل يتكلم طويلا، فيما تمتزج سيول دموعك بالبحيرة الصفراء بين قدميك، تراه يشير إليك بالعصا الطويلة:
«اقعد يا أبو شخه».
يضجون بالضحك، وتصير كنيتك حتى نهاية الابتدائية.
في المرة التي فكرت فيها أن تشكو إلى الناظر، نزلت بالفعل، تسمرت عند مدخل الحجرة الكبيرة، في النهاية ضربك ؛ لأنك وقفت هكذا، ولأنك أخرس، ولأنك بللت له طرف السجادة
القطيفة الحمراء الكبيرة، التي لا يوجد مثلها في المدرسة كلها



مجتزأ من الرواية
لتحميل وقراءة الرواية كاملة اضغط هنا.

الثلاثاء، ٢٠ مارس ٢٠٠٧

قصة




قميص خفيف دون أكمام


في الثانية عشرة مساء تُغلق النافذة.
أجمل الطالبات الريفيات اللاتي يسكن الشقة المقابلة، بعيون زرقاء وشعر عسلي، تفتح نافذتها في السابعة صباحًا، تبدأ يومها بالاستحمام، تجلس أمام المرآة تصفف شعرها الطويل، وتربطه ذيل حصان، تضع الكريم المرطب على بشرتها، وتسكب عطرا كثيرا على شعرها وصدرها ورقبتها ولا تستعمل إلا يد واحدة.
ستقابلها مرتين وتعرف بالملاحظة أن ذراعها اليسرى مبتورة، وتعرف أن لها حجرة مستقلة في شقة الطالبات المغتربات اللائى يسكن الثلاثة في غرفة، وأنها تحب الأغاني الشعبية.
ترتدي قفازين حتى لا تظهر الأصابع البلاستيكية للذراع الصناعية، ستحاول أن تنبش روحها، لكنها تظل صامتة، تسمع فقط وتشرد بنظراتها، ولن تسمح لك بأن تمسك يدها السليمة.
في السابعة صباحًا تُفتح النافذة، وتُغلق في الثانية عشرة مساء، ولن تخبرك عن العلاقات الحسية بينها وبين البنات بالداخل، ولا عن كمها الأيسر المتهدل لمدة سبع ساعات فقط يوميا.
مر موكب الفرح فأطلت، بعد منتصف الليل بساعة، اندفعت نحو النافذة لترى العروس داخل السيارة المزينة، فتحتها بيد واحدة، وبقميص نوم خفيف من دون أكمام، فرأيت الذراع اليسرى مقطوعة على بعد أربع أصابع من الكتف.
أطلت عندما سمعت أبواق سيارات الفرح، اندمجت، ولم تنتبه إلى وجودك ولا إلى اختفاء ذراعها الصناعية إلا بعد أن صار الفرح أصواتا بعيدة.
صفقت النافذة، وأنهت علاقتها بك بعد لقاءين وعلبة عصير مانجو رفضت هي أن تشربها. لكنها منحتك صورة لها، هي الأجمل بين الفتيات، بعينين رماديتين وشعر أصفر، فبدت كأنها أخرى، ولم تكن ابتسامتها مقنعة.
ستحاول أنت كثيرا أن تعيد علاقتك بها، لكنك ستعرف أنها لا تسمح لأي رجل بأن يعرف أن ذراعها مبتورة، وأنت رأيت.
بعد ذلك ستصادق أنت منى، البنت الأقبح في شقة المغتربات، وستعرف منها كل شيء عنها، رشا العجمي، البنت التي تركت الإسماعيلية، وأحبت القاهرة؛ لأن أحدا بها لا يعرف حادث السيارة وهي صغيرة، صارت تتحرك وتتعامل كأنثى كاملة، وإن ظل الشيء مبتورا داخل روحها، أشبعت كل حاجاتها الحسية مع البنات في غرفتها المستقلة المطلة على شارع جانبي صغير في مقابل حجرتك.
ستخبرك منى بأنها دربتهن على أن تتسلل واحدة منهن إلى حجرتها كل ليلة بعد الثانية عشرة، تبيت معها حتى الصباح، دون أن يتكلمن في ذلك نهائيًا، حيث تغلق في الليل كل الأنوار عدا نور حجرتها.
ستدبر لها عدة مكائد حتى تعيد علاقتك بها، لكنك تنتهي بأن تشي بهن في المنطقة كلها، دون أي رد فعل، وقد صارت لشقة المغتربات رائحة نفاذة يعرفها الجميع.
طوال النهار تظل النافذة مفتوحة تتحرك بداخلها فتاة أشبه ما تكون بالملائكة، بذراعين، وقفازين، وذيل حصان، وبلوزة حريرية بأكمام طويلة، وأنت تحلم بالجلوس على طرف سريرها، تشم عطرها الكثير، تلمس أنامل قدميها، تداعب ذيل الحصان، تفك أزرار بلوزتها، وأحزمة الذراع المستعار
.

الأحد، ١١ مارس ٢٠٠٧

قصة



البلاستيدات الخضراء


كانت المرة الأولى التي ترى فيها امرأة عارية.
دخل الأستاذ ناصر ظريف الفصل في أول حصة، وقال:
ـ أنا طول عمري رافض مبدأ الدروس الخصوصية.. لكنني وجدت أنها ضرورية لتحسين مستوى الطلبة، فبدأت أعطيها.. لكن من غير أن يتأثر شرحي في الفصل.
شكله أنظف من بقية المدرسين، ببنطلونه الجينز، وحذائه الأديداس، وسيارته السيات الصغيرة.
لم يعد يشرح في الفصل نهائيًا، وفي كل فصول أولى ثانوي لم يدخل غيرك درس الأحياء.
شقته واسعة ومرتبة، ويعطيك الدرس في غرفة مكتب أنيقة، لم تفهم منه، ولكنه وعدك بأنه سيخبرك بعلامة تضعها في ورقة الامتحان؛ حتى ينجِّحك.
كل مرة ترى الشقة هادئة ونظيفة، فسألته:
ـ لكن أين أولاد حضرتك؟
أشعل سيجارة كليوباترا بوكس، ويقول:
ـ ربنـا لم يأذن.
يكمل لك الإجابات الناقصة في امتحانات الشهور، ويعطيك الدرجة النهائية؛ لأن كل الفصل يعرف أنك الوحيد الذي دخلت عنده.
وعندما علم أنك تدخن صار يعزم عليك بالسجائر، ويقول:
ـ أنا أحب أن أكون أنا وطلابي أصدقاء.
تتبادل أنت وزملاؤك الصور الجنسية، ويحكي أصحاب الخيال الواسع منكم عن تجارب مكتملة أو مبتورة، كلُّ حسب خياله.
لكنك لم تتصور أبدًا أن ترى امرأة حقيقية عارية تمامًا، على بعد عدة أمتار، تتحرك جيئة وذهابا.
منضدة مستطيلة تتوسط غرفة المكتب، يعطيك الدرس عليها، كانت في الأصل ترابيزة سفرة من طراز قديم.
يجلس هو بجوار الباب ووجهه لك، وتكون أنت مواجهًا لفتحة الباب الموارب، ترى جزءا من سجادة الصالة، وكرسي أنتريه، ولوحة معلقة على الحائط بها قارب وصياد وشجرة نابتة في وسط النهر.
يشرح لك درس ((الخلية النباتية))، وبينما هو مندمج في الرسم، تمر زوجته بالصالة، عارية تمامًا، ومبلولة، يلتصق شعرها الأسود القصير برقبتها وظهرها وهو يردد:
ـ البلاستيدات الخضراء.
سمينة وطويلة، تسير وظهرها لك، ثم تنحني وتلتقط الفوطة من على الأرض، تستدير، فتراها بالكامل من الأمام، وتأتي عيناها في عينيك، ثم تختفي.
أخبرت كل زملائك بما رأيت، وبأن الأستاذ ناصر ظريف عاجز جنسيًا، بدليل أنه لم ينجب حتى الآن، وقد تجاوز الأربعين، ومن واحدة مثل زوجته.
دخل كثير من فصلك درس الأحياء، وصرت تذهب إلى الدرس مع مجموعة، وصار هو يغلق باب المكتب؛ حتى لا تتسرب الضوضاء إلى المدام بالخارج، كان يناديها في أثناء وجودكم بـ ((يا ناصر)).
لكنك عرفت أن اسمها ميادة من أمها التي زارتهم مرة، وكل قليل تقول:
ـ يا ميادة.. يا بنت يا ميادة.
في حين أسميتها أنت وزملاؤك: ((البلاستيدات الخضراء))، وصارت كلمة السر بينكم للإشارة إليها، وكان الولد أحمد عاطف حتى يضحككم يقول للأستاذ ناصر ظريف:
ـ البلاستيدات الخضراء حلوة جدا يا أستاذ.
كل واحد منكم يتخيل نفسه معها وهي في الوضع الذي حكيته لهم، أنت الوحيد الذي رأيتها هكذا، ولمرة واحدة، أما هم فلم يروها إلا بجلباب البيت العادي، إلا أن سمنتها الخفيفة مناسبة لتحريك خيالهم.
تضايقت لأنك أخبرتهم، فباب المكتب لم يفتح من يومها، لكنك صرت تحلم بها ليل نهار، أحببتها وأحببت درس الأحياء، صرت تنتظره بفارغ الصبر.
في وسط الدرس قلت:
ـ لو سمحت يا أستاذ.. أريد أن أذهب إلى الحمام.
تخيلت أنه سيقول لك: اذهب. فتخرج لتجدها على الصورة التي لا تتخيلها إلا بها، وهي مبلولة، لكنه قال:
ـ حاضر.
خرج قليلا، وأغلق الباب خلفه، ثم رافقك حتى رجعت من الحمام، لمحت في الصالة بواقي تفاح، وقشر موز، وكان التليفزيون مفتوحًا على فيلم أجنبي في الدش. أثار تفرجها على الدش خيالك، وأقنعت نفسك أن المطلوب منك فقط أن تنفرد بها، وستقوم هي بالباقي.
في الفسحة قفزت من على سور المدرسة، ركبت متوجها إلى بيت الأستاذ ناصر وقلبك يدق بعنف، تفكر في ملمس شعرها الناعم المبلول.
لم تضغط على الجرس، طرقت طرقة واحدة، وانتظرت حتى فتحت لك، ترتدي معطف نوم أصفر محبوكا حول جسدها، ووجهها يحمل آثار النوم، خمنت أنها لا ترتدي شيئا تحته، قلت:
ـ الأستاذ موجود.
هزت رأسها بالنفي.
ـ الصراحة أنا تغيبت اليوم من المدرسة.. الصراحة حسبته لم يذهب.. الصراحة لم أفهم الدرس الماضي...
وهي صامتة تنظر إليك، وتدرك أنت أن كذبك مفضوح؛ لأنك مرتبك، وترتدي ملابس المدرسة، وتحمل الحقيبة. قلت:
ـ طيب ممكن أنتظره.. هو زمانه في الطريق.
تركت لك مسافة لتمر، ثم أغلقت خلفك، ودخلت حجرة النوم، أثارك تثنيها وهي منصرفة. وأنت مرتبك تخشى أن يكون دخولها إلى غرفة النوم دعوة لك، فتقول عليك ((عبيط)) إذا لم تدخل. لكنك تخاف أن تقوم.
عادت، وجلست على طرف الكنبة القريب منك، قالت:
ـ ممكن أطلب منك حاجة؟
حاولت أن تنظر على ركبتها أو فتحة صدرها وأنت تهز لها رأسك بالموافقة، قالت:
ـ أريد مجلة نص الدنيا.
ووصفت لك أكثر من بائع جرائد. شعرت برجولتك تتضاءل وهي تعطيك ثمن المجلة، لم يكن بجيبك سوى أجرة الرجوع، تمنيت لو تقول لها بفخر:
ـ لا والله أنا معي.
لكنك أخذت منها النقود في انكسار، وأنت نازل السلم قالت لك بصوت رفيع:
ـ ربنا يخليك لا تأت إلا وهي معك.
عرقان، وملابسك متربة، بيدك المجلة التي أحضرتها من البائع البعيد.. يقابلك الأستاذ ناصر ظريف نازلا من السيارة يغلق بابها، حذاؤه الأديداس أبيض، وغال، ووجهه أحمر، قال لك:
ـ تعال مع زملائك.. أنا مشغول اليوم.
ناولته نصف الدنيا، أعطاك ظهره، واختفى في مدخل البيت.

الخميس، ٨ مارس ٢٠٠٧

اشتريته ب185 جنيه من يومين واشتريتله شاحن صيني بـ5 جنيه

المهم يكون هو مسامح في العدة
بعد انقطاع دام يومين كاملين عن الحياة استطعت استرداد شريحة لخطي القديم من شركة موبينيل بعشرة جنيهات فقط
يابلاش

لكن فضلت واقع في مشكلة العدة
الحالة كانت مقشفرة جدا.. ومافيش أي فلوس.. ولاد الحلال - وما أكثرهم - قالولي ده الموبايلات دلوقتي بتبدأ من 20 جنيه بس
قلت لو كده بسيطة خصوصا ان الواحد ما وصلش لمرحلة ان مامعهوش عشرين جنية
طب فين يا اخوانا الموبايل اللقطة أبو بريزتين ده
اخوانا ولاد الحلال اختفوا تماما
فطلعلي ولاد حلال تانيين قالوا لي عليك وعلى شارع عبد العزيز
حطيت في المحفظة 200 جنيه ورحت نازل
المبلغ الباهظ ده جالي على فجأة كده كأنه جاي علشان الموبايل مخصوص
اتمشيت في شارع أخونا عبد العزيز
الساعة كانت حوالي 11 ونص بالليل، والشارع يا مولانا ملغم أمناء شرطة، أنا قلقت وقلت المقاطيع دول بيتنشقوا على أي مصلحة
كنت متخيل ان مادام في موبيلات بعشرين جنيه يبقى أنا بالمتين جنيه بتوعي دول أقل واجب هاجيب نوكيا إن 93
بدأت أسأل في المحلات فلقيت أقل عدة ملونه ومجسمة فوق الـ 300 قلت الواحد كان لازم يجيب معاه واحد من اخوانا بتوع العشرينات عشان يعرف انه مجرد مروج إشاعات

أول ما نزلت كنت مقرر اني يا أشتري من محل يا مش هشتري
لكن شيئا فشيئا لقيت المحلات مولعة
بدأت انزل من فوق الرصيف وكل ما الاقي تلاته أربعة متجمعين على عدة أقف أبص من بعيد أشوف الأمور ماشية ازاي
كانت الأسعار جميلة جدا
لدرجة اني لقيت نوكيا 6600 ب 450 جنية بس
المهم لقيت عيل صغير كده واقف وماسك في إيده عدة سامسونج سي 100 أخت اللي فوق دي
قلت له
عاملة كام دي يا نجم
قال
اتنين وربع
قلت له
كتير
قال
دي عدة نضيفة يا زعيم.. حاجة على أبوها
بعد كده جه واحد تاني أكبر منه شويه خد العدة منه ومشي
وشاور لي بإيده اني أمشي وراه
مشيت وراه كالمنوم مغناطيسيا
قال لي
أؤمر
قلت
الأمر لله. العدة دي لازماني بس الكابتن -وأشرت على الصغير- بيقول بمتين جنيه ودول كتير عليها
فبرق بعينيه للصغير فقال
ايه يا كابتن أنا قايل لك 2 وربع
قلت كتير
طول الكلام ده وهما ممشيني وراهم لحد ما دخلوني ممر ضيق وفاضي
الكبير قال
أصل المباحث مش سايبينا نسترزق
المهم فاصلت معاه لحد ما وصلنا ل 185 جنيه
جربت العده فوجدتها بحالة كويسة
سألته
معاها حاجة.. شاحن.. سماعة.. علبة
قال لي
لأ والله يانجم بس حاجة نضيفة استعمال طبيب
اشتريت شاحن بخمسة جنيه على حسابي وجربته في العده فكان بيشحن
حطيت الشاحن في شنطتي والعدة في جيبي
وطلعت الفلوس اديتهاله ومشيت بسرعة جدا مش مصدق اني ما اتنصبش عليا في الفلوس أو عملوش عليا أي فيلم
لقيت الواد بعد كده جي جري ورايا
وبيقول
يا كابتن يا أبو قميص اسود.. يا كابتن يا بتاع الـ سي 100.. يانجم
بصيت عليه مع اني كنت لابس سويت شيرت مش قميص وكحلي مش اسود
لقيته بيقولي
مسامح في الفلوس
استغربت وهزيت له دماغي ومشيت

الاثنين، ٥ مارس ٢٠٠٧

مقالي عن محمد حسين بكر في أخبار الأدب



طرف من خبر الكتابة


ما أقسي الموت لو أن الفتي.. محمد حسين بكر

محمد صلاح العزب

1

1الجثمان يخرج من الغرفة مدفوعا علي تروللي 'معهد ناصر'، مغطي بالكامل بملاءة بيضاء، ينزلون به إلي ثلاجة المعهد، رغم أنه أوصي ألا يدخلوه في الثلاجة بعد موته، لأنه لايحب البرد.في الداخل يبقي الجسد عاريا تماما إلا من شريط لاصق عريض علي جبهته مكتوب عليه



محمد أحمد حسين بكر


غرفة 743


أ. د. مختار جمعة
قسم القلب




مع أنه كان حريصا علي التخفي، حتي يتوه في زحام الاموات.




2




كنت أعرف كلا منهما: 'سهي زكي'، و'محمد حسين بكر'، أقابل كل واحد منفردا في ندوة أو علي مقاهي وسط البلد.


بعد تخرجي من الجامعة غبت حوالي عام عن الوسط الثقافي، قابلتهما في الشارع بعدها يسيران معا، دهشت وسألتهما


انتو تعرفوا بعض؟'


سهي' كانت تحمل طفلا رضيعا علي ذراعها لم أنتبه إليه، أشار إليه وقال


دي نهي بنتنا.


فرحت جدا باسترداد صديقين دفعة واحدة، فكرا أن أفضل ما يمكن أن يقدماه للعالم مجموعة قصصية مشتركة، وطفلة.




3




يسير في الشارع ليلا، يستوقفه ضابط دورية راكبة


أنت بتشتغل إيه ياد؟


كاتب.


وعلي طريقة 'يحيي الطاهر عبدالله' يخرج له ورقة جريدة من جيبه بها قصة تحمل اسمه، يقارن الضابط بين الاسمين في البطاقة والجريدة، وحين لايفهم يسبه بأمه ويمضي.


يقول:'أنا ها خلف بنت وهتبقي يتيمة زي أسماء يحيي الطاهر عبدالله'.


وحين يمسك بالقلم كي يشخبط فوق الأوراق يكتب جملة واحدة، يكررها عشرات المرات:'يأتي وحيدا وسيموت وحيدا'.


في اللحظة الأخيرة طلب زوجته علي الموبايل، طلب منها أن تحضر معها: 'جبنة رومي' و'فينو آلي' وماكينة حلاقة، قال لها:'تعالي بسرعة عشان دي آخر مرة هاكل فيها'.


ثم ينقطع الخط، دون أن يكون معه أي أحد.




4




في زيارتي الثانية له في 'معهد ناصر' طلب مني أن أوصله إلي الحمام، حاول أن يسير دون أن يعتمد عليٌ بشكل كامل، حتي لايكون ثقيلا.


أول ما دخلنا من الباب الخارجي ارتمي في حضني وبكي، قال:أنا تعبت أوي يامحمد.


احتضنته بقوة وربت علي ظهره، فشعرت بضلوعه في يدي مباشرة، حاولت التماسك:


خليك جامد عشان نهى


.أغلق الباب خلفه وخرج بعد لحظة دون أن يفعل شيئا بالداخل، فأدركت أنه كان يريد حماما من نوع آخر


.


5




في أيامه الأخيرة في المعهد كان كلما زاره واحد ورأي في يده ساعة، سأله عنها، وأخذها ليتفرج عليها، وظل يلح في طلب ساعة يرتديها


في يده بشرط أن تكون بها تاريخ، وقبل موته بأيام تسلل من المعهد وخرج، ذهب إلي ساعاتي قديم يعرفه، واشتري ساعة 'أنتيكة' قديمة جدا بخمسين جنيها، ظل سعيدا بها جدا ينظر فيها كل قليل.


كان يكتب رواية، قبل أن يتمها وضع لها عنوان 'أحزان معاوية'، قال إنه سيموت بمجرد أن يكملها، لذا ظل يتلكأ كثيرا، لكنه للأسف الشديد، أكمل مسودتها الأولي بالفعل قبل أيام.


هل كان متأثرا بما يخدعوننا به، من أن الكتابة والابداع تم اختراعهما حين فشل الانسان في الوصول إلي حل آخر لمسألة الخلود؟


لم تكن بيئته تساعده علي الكتابة، نشأ في أسرة كونت له أحلامه وهو صغير، أرادت أن تعلمه صنعة مربحة حتي يكبر ويصير 'صنايعي كسيب'، لكنه خذل أحلامهم ودخل كلية الحقوق، وحين لاحظ عليه أهله أنه بدأ يكتب ويحاول النشر في الجرائد اتهموه بالجنون.


بدأ الكتابة في عام 92، وظل يكتب دون أن يدري به أحد نهائيا حتي فكر في اصدار طبعة محدودة علي نفقته الخاصة من مجموعته الأولي عام 2001، أي بعد تسع سنوات كاملة، طبعة محدودة جدا لدرجة أنه لم يفكر أن يخبرني عنها حين تعرفت إليه بعدها، ولا أعرف اسمها


ثم يصدر مع 'سهي زكي' وكاتب آخر مجموعة قصصية مشتركة بعنوان 'بوح الأرصفة' علي حسابهم الشخصي أيضا.


حاول الوقوف مع الواقفين في طوابير النشر الحكومي، لكن لأنه كان مبدعا حقيقيا ومريضا بالقلب لم يستطع الوقوف طويلا وسط كل هذا الكم من الأدعياء، فانسحب بهدوء وحين أدرك أنه لايملك ألفي جنيه ليدفعها لناشر خاص قرر ألا ينشر ثانية.غير أنني في زيارتي قبل الأخيرة وجدته متهللا جدا، لدرجة أنني تصورت أنه شفي تماما وعلي وشك الخروج، لكنه أبلغني أن موعد العملية لم يتحدد بعد كالعادة، فسألته عما يفرحه إذن، فأخبرني أن الدكتور علاء الأسواني اتصل به ووعده أنه سيكلم 'المعلم' حتي ينشر له كتابا في 'الشروق'.




6




ظل 'بكر' يعاني لفترة طويلة قبل دخوله إلي 'معهد ناصر'، حاول أن يصل إلي قرار للعلاج علي نفقة الدولة كمبدع، طرق باب الوزير، ورئيس اتحاد الكتاب، ونشرت 'أخبار الأدب' أكثر من استغاثة، لكن هل سأل أحد في أي مبدع حالة مرضه قبل ذلك؟


في النهاية ذهب إلي أحد الصحفيين الكبار، فرفع سماعة الهاتف، ودخل 'بكر' إلي المعهد ليس عن طريق الابداع، ولكن عن طريق الفساد.


في احدي زياراتي له طلبت منه أن يكتب، أن يحول المرض والمعهد والألم إلي كتابة، فرد عليٌ أنه لايستطيع الإمساك بالقلم، وأنهم يمنعون عنه الأوراق والأقلام، بعد ذلك سمحوا له بهما فأتم روايته 'أحزان معاوية'، وكتب نصوصا قليلة أخري.


كان سعيدا جدا بالنشر المتكرر لاسمه في 'أخبار الأدب'، مع أن النشر لم يكن سوي تسول حقه في العلاج.


الآن مات 'محمد حسين بكر' ليبدأ المئات في سماع اسمه لأول مرة والانتباه لنصوصه، رغم أنه ترك روايتين وحوالي خمس مجموعات قصصية لم تنشر ولم يحاول أحد الاهتمام به أو بها، لكنها عادتنا، فكان لابد أن يموت 'أسامة الدناصوري' حتي يتم الاحتفاء به بهذا الشكل الذي لو كان حيا لما أمكنه أن يصدقه، وكان لابد لنعمات البحيري أن تتحول إلي 'امرأة مشعة' حتي تصبح كاتبة مشهورة، وبالطبع كان لابد 'لمحمد حسين بكر' أن يموت حتي يبدأ اسمه في التردد.




7




دون أن يعرفه أحد سوي أصدقائه المقربين، مات 'محمد حسين بكر'.


كان يشعر طوال الوقت أن المثقفين أعداؤه، كان يري أن الفساد الثقافي العام يصب ضد مصلحته الشخصية، وضد كتابته وضد وجوده، وأن الوسط الثقافي مجرد 'ملهي ليلي' كبير، مما جعله ينحي الابداع جانبا لفترة ليبدأ في كتاب عنونه بـ 'فضائح المثقفين' يعري فيه كل أوجه الفساد الثقافي، ويفضح الكبار والصغار بالاسماء.


كان يحلم مثل يحيي الطاهر أن يكتب في خانة الوظيفة في البطاقة الشخصية: 'كاتب قصة'، لكنه بعد أن تزوج أدرك أن 'كاتب قصة' وظيفة لايعترف بها المجتمع حتي لو اعترفت بها الدولة وكتبتها في البطاقات، فالبطاقة لاتمنح مرتبا شهريا يفتح بيتا.


كان قلبه الضعيف لايحتمل أدني مجهود، لكنه نزل، وكأي كاتب يبدأ البحث عن عمل طرق أبواب الصحافة باعتبارها بنت عم الأدب غير الشرعية، فواجه فساد الصحافة الأكبر من فساد الأدب، وظل يتنقل من صحيفة مغمورة إلي أخري تحت السلم، يخرج صباحا ليرجع بعد منتصف الليل، ليس بجيبه سوي جنيهات قليلة، وحين يستوقفه أحد يسأله عن مهنته لايقول صحفيا، بل: 'كاتب قصة'.


يئن قلبه الضعيف ويرفض الاستمرار.


لماذا كان الأدب بخيلا معه إلي هذا الحد؟ ماذا كان سيضيره لو 'فكها' قليلا ومنحه بعض ما يستحق، وهو الذي يمنح ويمنع بغير حساب.


لم يكن 'بكر' طماعا، كان يحب أن يري كتاباته في أيدي أناس لايعرفهم ولايعرفونه يقرءونها، هو الذي كلما رأي نصا لأي صديق بأي جريدة أو مجلة يسارع بالاتصال به ليخبره، وكأن النص نصه هو.




8




كان 'محمد حسين بكر' طويلا.. والطويل يري أبعد، الطويل يري تقريبا حتي النهاية.


في الفترة الأخيرة ملٌ من المستشفي، صار يتشاجر مع زوجته حتي يخرج،


يقول:نفسي أشوف وسط البلد.. وحشتني.. أشوفها لأني مش هشوفها تاني.


يتسلل من المستشفي ويخرج، ينقل قدمه بصعوبة شديدة، وينهج من المجهود الضئيل، يذهب إلي 'مدبولي' و 'الشروق' يسأل عن 'التلصص' لصنع الله ابراهيم، فلا يجدها، يتصل بأحد الأصدقاء يسأله عن مكان وجودها، فيخبره أنها ربما تكون موجودة في 'ميريت' . يذهب إلي 'ميريت' بصعوبة شديدة، ويصعد السلم بصعوبة أشد، فيجد الباب مغلقا بالفعل من الخارج، يتهاوي أمامه تماما، ويظل هكذا لفترة، ثم يتحامل علي نفسه وينزل ويتصل بالصديق مرة أخري، فيخبره أنها ربما تكون موجودة في مكتبة 'ديوان' بالزمالك، فيركب ويتوجه إليها، وهو يتنفس بصعوبة شديدة ولايقدر علي المشي، وعندما يجد الرواية في 'ديوان' يتهلل ويتحسن بعض الشيء، يتصفحها وهو واقف فتعجبه، وقبل أن يخرج يقرر أن يكتب عنها.




9




في مقاله الأخير تمني 'محمد حسين بكر' أن تكون 'أخبار الأدب' موجودة في الجنة، لأنه كان يحبها، فهل ستصله النسخة التي كان اسمه موجودا علي غلافها؟




10




يرحل 'محمد حسين بكر' وحين أحاول البحث في 'جوجل' علي الإنترنت عن صورة له حتي أضعها علي مدونتي مع موضوع كتبته عنه.. لا أجد.

اشتريته ب830 جنيه من 3 سنين






نوكيا 8310


موبايلي العزيز اتسرق

مش بالظبط، لأني نسيته في الميكروباص، لكن بمجرد ما نزلت والعربية مشيت رنيت عليه من كابينة ميناتل فردت عليا الأخت الفاضلة

الهاتف الذي طلبته خارج نطاق المواضيع

قلتلها شكرا واستنيت لحد ما خلصت بالعربي والانجليزي عشان لو قفلت في وشها ممكن تقول عليا مش شيك

أنا رجعت الخط تاني بس كل الأرقام اللي كانت عليه اتمسحت

لكن اللي فرحني إن نمرتي فضلت زي ما هي

لذا أرجو من كل أصحابي أن يرسلو لي ماسجات بأرقامهم لأنني مقطوع عن الحياة تماما

طبعا الشخص اللي سرق موبايلي ما بيشتغلش حرامي لكن هو لقى فرصة انه يبقى حرامي فقال يجرب من باب يشوف الفكرة عاملة ازاي

عموما ربنا يساهله

بس هو غبي لأني كنت ناوي أجيب حاجة حديثة من الجيل الثالث

بس هو استعجل