الاثنين، ٥ مارس ٢٠٠٧

مقالي عن محمد حسين بكر في أخبار الأدب



طرف من خبر الكتابة


ما أقسي الموت لو أن الفتي.. محمد حسين بكر

محمد صلاح العزب

1

1الجثمان يخرج من الغرفة مدفوعا علي تروللي 'معهد ناصر'، مغطي بالكامل بملاءة بيضاء، ينزلون به إلي ثلاجة المعهد، رغم أنه أوصي ألا يدخلوه في الثلاجة بعد موته، لأنه لايحب البرد.في الداخل يبقي الجسد عاريا تماما إلا من شريط لاصق عريض علي جبهته مكتوب عليه



محمد أحمد حسين بكر


غرفة 743


أ. د. مختار جمعة
قسم القلب




مع أنه كان حريصا علي التخفي، حتي يتوه في زحام الاموات.




2




كنت أعرف كلا منهما: 'سهي زكي'، و'محمد حسين بكر'، أقابل كل واحد منفردا في ندوة أو علي مقاهي وسط البلد.


بعد تخرجي من الجامعة غبت حوالي عام عن الوسط الثقافي، قابلتهما في الشارع بعدها يسيران معا، دهشت وسألتهما


انتو تعرفوا بعض؟'


سهي' كانت تحمل طفلا رضيعا علي ذراعها لم أنتبه إليه، أشار إليه وقال


دي نهي بنتنا.


فرحت جدا باسترداد صديقين دفعة واحدة، فكرا أن أفضل ما يمكن أن يقدماه للعالم مجموعة قصصية مشتركة، وطفلة.




3




يسير في الشارع ليلا، يستوقفه ضابط دورية راكبة


أنت بتشتغل إيه ياد؟


كاتب.


وعلي طريقة 'يحيي الطاهر عبدالله' يخرج له ورقة جريدة من جيبه بها قصة تحمل اسمه، يقارن الضابط بين الاسمين في البطاقة والجريدة، وحين لايفهم يسبه بأمه ويمضي.


يقول:'أنا ها خلف بنت وهتبقي يتيمة زي أسماء يحيي الطاهر عبدالله'.


وحين يمسك بالقلم كي يشخبط فوق الأوراق يكتب جملة واحدة، يكررها عشرات المرات:'يأتي وحيدا وسيموت وحيدا'.


في اللحظة الأخيرة طلب زوجته علي الموبايل، طلب منها أن تحضر معها: 'جبنة رومي' و'فينو آلي' وماكينة حلاقة، قال لها:'تعالي بسرعة عشان دي آخر مرة هاكل فيها'.


ثم ينقطع الخط، دون أن يكون معه أي أحد.




4




في زيارتي الثانية له في 'معهد ناصر' طلب مني أن أوصله إلي الحمام، حاول أن يسير دون أن يعتمد عليٌ بشكل كامل، حتي لايكون ثقيلا.


أول ما دخلنا من الباب الخارجي ارتمي في حضني وبكي، قال:أنا تعبت أوي يامحمد.


احتضنته بقوة وربت علي ظهره، فشعرت بضلوعه في يدي مباشرة، حاولت التماسك:


خليك جامد عشان نهى


.أغلق الباب خلفه وخرج بعد لحظة دون أن يفعل شيئا بالداخل، فأدركت أنه كان يريد حماما من نوع آخر


.


5




في أيامه الأخيرة في المعهد كان كلما زاره واحد ورأي في يده ساعة، سأله عنها، وأخذها ليتفرج عليها، وظل يلح في طلب ساعة يرتديها


في يده بشرط أن تكون بها تاريخ، وقبل موته بأيام تسلل من المعهد وخرج، ذهب إلي ساعاتي قديم يعرفه، واشتري ساعة 'أنتيكة' قديمة جدا بخمسين جنيها، ظل سعيدا بها جدا ينظر فيها كل قليل.


كان يكتب رواية، قبل أن يتمها وضع لها عنوان 'أحزان معاوية'، قال إنه سيموت بمجرد أن يكملها، لذا ظل يتلكأ كثيرا، لكنه للأسف الشديد، أكمل مسودتها الأولي بالفعل قبل أيام.


هل كان متأثرا بما يخدعوننا به، من أن الكتابة والابداع تم اختراعهما حين فشل الانسان في الوصول إلي حل آخر لمسألة الخلود؟


لم تكن بيئته تساعده علي الكتابة، نشأ في أسرة كونت له أحلامه وهو صغير، أرادت أن تعلمه صنعة مربحة حتي يكبر ويصير 'صنايعي كسيب'، لكنه خذل أحلامهم ودخل كلية الحقوق، وحين لاحظ عليه أهله أنه بدأ يكتب ويحاول النشر في الجرائد اتهموه بالجنون.


بدأ الكتابة في عام 92، وظل يكتب دون أن يدري به أحد نهائيا حتي فكر في اصدار طبعة محدودة علي نفقته الخاصة من مجموعته الأولي عام 2001، أي بعد تسع سنوات كاملة، طبعة محدودة جدا لدرجة أنه لم يفكر أن يخبرني عنها حين تعرفت إليه بعدها، ولا أعرف اسمها


ثم يصدر مع 'سهي زكي' وكاتب آخر مجموعة قصصية مشتركة بعنوان 'بوح الأرصفة' علي حسابهم الشخصي أيضا.


حاول الوقوف مع الواقفين في طوابير النشر الحكومي، لكن لأنه كان مبدعا حقيقيا ومريضا بالقلب لم يستطع الوقوف طويلا وسط كل هذا الكم من الأدعياء، فانسحب بهدوء وحين أدرك أنه لايملك ألفي جنيه ليدفعها لناشر خاص قرر ألا ينشر ثانية.غير أنني في زيارتي قبل الأخيرة وجدته متهللا جدا، لدرجة أنني تصورت أنه شفي تماما وعلي وشك الخروج، لكنه أبلغني أن موعد العملية لم يتحدد بعد كالعادة، فسألته عما يفرحه إذن، فأخبرني أن الدكتور علاء الأسواني اتصل به ووعده أنه سيكلم 'المعلم' حتي ينشر له كتابا في 'الشروق'.




6




ظل 'بكر' يعاني لفترة طويلة قبل دخوله إلي 'معهد ناصر'، حاول أن يصل إلي قرار للعلاج علي نفقة الدولة كمبدع، طرق باب الوزير، ورئيس اتحاد الكتاب، ونشرت 'أخبار الأدب' أكثر من استغاثة، لكن هل سأل أحد في أي مبدع حالة مرضه قبل ذلك؟


في النهاية ذهب إلي أحد الصحفيين الكبار، فرفع سماعة الهاتف، ودخل 'بكر' إلي المعهد ليس عن طريق الابداع، ولكن عن طريق الفساد.


في احدي زياراتي له طلبت منه أن يكتب، أن يحول المرض والمعهد والألم إلي كتابة، فرد عليٌ أنه لايستطيع الإمساك بالقلم، وأنهم يمنعون عنه الأوراق والأقلام، بعد ذلك سمحوا له بهما فأتم روايته 'أحزان معاوية'، وكتب نصوصا قليلة أخري.


كان سعيدا جدا بالنشر المتكرر لاسمه في 'أخبار الأدب'، مع أن النشر لم يكن سوي تسول حقه في العلاج.


الآن مات 'محمد حسين بكر' ليبدأ المئات في سماع اسمه لأول مرة والانتباه لنصوصه، رغم أنه ترك روايتين وحوالي خمس مجموعات قصصية لم تنشر ولم يحاول أحد الاهتمام به أو بها، لكنها عادتنا، فكان لابد أن يموت 'أسامة الدناصوري' حتي يتم الاحتفاء به بهذا الشكل الذي لو كان حيا لما أمكنه أن يصدقه، وكان لابد لنعمات البحيري أن تتحول إلي 'امرأة مشعة' حتي تصبح كاتبة مشهورة، وبالطبع كان لابد 'لمحمد حسين بكر' أن يموت حتي يبدأ اسمه في التردد.




7




دون أن يعرفه أحد سوي أصدقائه المقربين، مات 'محمد حسين بكر'.


كان يشعر طوال الوقت أن المثقفين أعداؤه، كان يري أن الفساد الثقافي العام يصب ضد مصلحته الشخصية، وضد كتابته وضد وجوده، وأن الوسط الثقافي مجرد 'ملهي ليلي' كبير، مما جعله ينحي الابداع جانبا لفترة ليبدأ في كتاب عنونه بـ 'فضائح المثقفين' يعري فيه كل أوجه الفساد الثقافي، ويفضح الكبار والصغار بالاسماء.


كان يحلم مثل يحيي الطاهر أن يكتب في خانة الوظيفة في البطاقة الشخصية: 'كاتب قصة'، لكنه بعد أن تزوج أدرك أن 'كاتب قصة' وظيفة لايعترف بها المجتمع حتي لو اعترفت بها الدولة وكتبتها في البطاقات، فالبطاقة لاتمنح مرتبا شهريا يفتح بيتا.


كان قلبه الضعيف لايحتمل أدني مجهود، لكنه نزل، وكأي كاتب يبدأ البحث عن عمل طرق أبواب الصحافة باعتبارها بنت عم الأدب غير الشرعية، فواجه فساد الصحافة الأكبر من فساد الأدب، وظل يتنقل من صحيفة مغمورة إلي أخري تحت السلم، يخرج صباحا ليرجع بعد منتصف الليل، ليس بجيبه سوي جنيهات قليلة، وحين يستوقفه أحد يسأله عن مهنته لايقول صحفيا، بل: 'كاتب قصة'.


يئن قلبه الضعيف ويرفض الاستمرار.


لماذا كان الأدب بخيلا معه إلي هذا الحد؟ ماذا كان سيضيره لو 'فكها' قليلا ومنحه بعض ما يستحق، وهو الذي يمنح ويمنع بغير حساب.


لم يكن 'بكر' طماعا، كان يحب أن يري كتاباته في أيدي أناس لايعرفهم ولايعرفونه يقرءونها، هو الذي كلما رأي نصا لأي صديق بأي جريدة أو مجلة يسارع بالاتصال به ليخبره، وكأن النص نصه هو.




8




كان 'محمد حسين بكر' طويلا.. والطويل يري أبعد، الطويل يري تقريبا حتي النهاية.


في الفترة الأخيرة ملٌ من المستشفي، صار يتشاجر مع زوجته حتي يخرج،


يقول:نفسي أشوف وسط البلد.. وحشتني.. أشوفها لأني مش هشوفها تاني.


يتسلل من المستشفي ويخرج، ينقل قدمه بصعوبة شديدة، وينهج من المجهود الضئيل، يذهب إلي 'مدبولي' و 'الشروق' يسأل عن 'التلصص' لصنع الله ابراهيم، فلا يجدها، يتصل بأحد الأصدقاء يسأله عن مكان وجودها، فيخبره أنها ربما تكون موجودة في 'ميريت' . يذهب إلي 'ميريت' بصعوبة شديدة، ويصعد السلم بصعوبة أشد، فيجد الباب مغلقا بالفعل من الخارج، يتهاوي أمامه تماما، ويظل هكذا لفترة، ثم يتحامل علي نفسه وينزل ويتصل بالصديق مرة أخري، فيخبره أنها ربما تكون موجودة في مكتبة 'ديوان' بالزمالك، فيركب ويتوجه إليها، وهو يتنفس بصعوبة شديدة ولايقدر علي المشي، وعندما يجد الرواية في 'ديوان' يتهلل ويتحسن بعض الشيء، يتصفحها وهو واقف فتعجبه، وقبل أن يخرج يقرر أن يكتب عنها.




9




في مقاله الأخير تمني 'محمد حسين بكر' أن تكون 'أخبار الأدب' موجودة في الجنة، لأنه كان يحبها، فهل ستصله النسخة التي كان اسمه موجودا علي غلافها؟




10




يرحل 'محمد حسين بكر' وحين أحاول البحث في 'جوجل' علي الإنترنت عن صورة له حتي أضعها علي مدونتي مع موضوع كتبته عنه.. لا أجد.

هناك ٩ تعليقات:

Ghada يقول...

على فكرة أنا قريت المقال النهاردة بالصدفة من غير ما أعرف إن عندك بلوج..

وعلى فكرة تاني كنت باروق المكتب بتاعي برضه النهاردة فلقيت "سرداب طويل..." واكتشفت إن الكاتب هو نفس الشخص برضه!

عموما أنا بأحييك على المقال.. أثر فيا جدا..وفتح نفسي أقرا الرواية :)..

أسوور يقول...

رحمه الله ورحم من مثله أحياء أو أموات

وقلبى مع زوجته المكلومة

كراكيب نـهـى مـحمود يقول...

قرأتها بأخبار الادب وعجبتني جدا
كنت قد سمعت منه حكاية انت بتشتغل ايه ياد دمعت عيناي من الضحك وهوه يحكي
تذكرتها وانا اقراها عندك الله يرحمه

محمد صلاح العزب يقول...

غادة
تحياتي ليكي
شكرا على رأيك في مقالة محمد حسين بكر
وعاجبني جدا موضوع الصدفة المتكررة
بس عاوز أعرف سرداب طويل وصلتلك ازاي
وياريت تزوري بلوجي دايما
شكرا ليكي

ياسمين
خطوة عزيزة
وشرفيني دايما
وشكرا لمشاعرك الرقيقة

نهى
البقاء لله
كان إنسان حقيقي
ودول عادة مش مناسبين للعالم اللي احنا عايشين فيه

www.blogs4arab.com يقول...

يسعدنا تشريفك
www.blogs4arab.com

Unknown يقول...

ربنا يرحمه يامحمد, ويارب يعوضه عن اللي مأخدهوش في الدنيا, في ناس كده , مش بتاخد من الدنيا حاجه, عشان ربنا هو اللي يديها كل حاجه.

باسم شرف يقول...

قريت المقال في اخبار الادب وعجبني جدا

الله يرحم محمد كان نفسه في مقال زي ده يسعده وزي اي حد فينا بيسعد بالمقالات اللي ليها علاقة بشجنه

مقال مليان شجن محمد بكر اللي سابه بعد غلاف اي كتاب هتقراه .. شكرا لبكر وشكرا ليك ياعزب

محمد صلاح العزب يقول...

إسراء
شكرا لمشاعرك الطيبة
ويارب محمد يكون في حال أسعد دلوقتي

*********
أهلا وسهلا يا عم باسم
شكرا ليك انت على القصة اللي نشرتها لبكر في مدونتك
وانت من أوائل الناس اللي طبقوا حزنهم بشكل عملي
تحياتي لإنسانيتك

محمود فهمى يقول...

انا قريت المقال فى اخبار الادب
وحزنت جدا لانى قابلت محمد الله يرحمه يمكن مرتين اوتلاته من فتره طويله
كان انسان جميل
الله يرحمه