الاثنين، ٢٣ يوليو ٢٠٠٧

قارب لا يحب شط النهر


-1-

العم سمعان هو العم سمعان، ببشرته السمراء، وجلبابه ذي الكم الواسع جدًّا، يظل باسمًا طوال الوقت كأنما يفاخر بأسنانه الناصعة ويقول:
" هذه الدنيا هكذا.. لا عيش فيها للمتجهم".
هو العم سمعان بأعوامه السبعين دون أن تنحني منه عظمة، أو تشيب له شعرة:
"كيف يا عم سمعان؟!".
"البركة والكرامة يا حفيد الشيخ، منحك الله السر".
له في خدمة جدي منها ثلاثون عاما.
برغم تلعثمه وشروده ونسيانه إلا أنه هو ركن الحكاية، العم سمعان في الحكاية هو الراوي، وعلى من يريد سماع حكايات البداية أن يصبر، وأن ينتبه.
"يا عم سمعان، احك لي حكاية العم سمعان".
يخجل ولا يحكي، يهرب مني إلى حكاياته الأخرى التي لا تنتهي، لكنني لا أتركه، أظل ألح عليه، فلا أراه يبخل إلا في هذه الحكاية.
"سمعان الفقير أصله ليس من هنا، سيظل رملك الأصفر يا صحراء يجهله، ولا يأنس به، وسيظل لماء البئر وماء العين طعمهما الغريب في فمه، وسيظل كلما واجهته وجوه البدو الخشنة، بعيونهم المختبئة، وشفاههم المبيضة ـ سمة العطش الأزلي ـ يحن إلى هناك، حيث الأرض البنية تعرف وقع خطوه.
سمعان أصله من عند آخر النهر، حيث الماء كالسكر، والأخضر يفرش حتى آخر العين، وحيث الفتيات السمراوات يغنين أغاني العرس بصوت له حلاوة صوت المؤذن، لكن الرزق الوفير هناك الذي اتسع لكل باسط يد، أتي عند الفقير وضاق.
قالوا: يا فقير اركب النهر، أو اركب السيارة، أو اركب ظهر القطار، وفي البلاد الكثيرة رزق لكل نازح، لم يعلموا – وأنَّى لهم – أن رزق الفقير الذي لم يجده وسط الخير والزرع مخبوء له في جدب الصحراء القاسية.
سمعان قال: يا أُمّ هنا في كل يوم عرس يقام، الصغار يكبرون ويُزفون، وسمعان قارب أن يشيخ وليس في يده جنيه؛ ليقول: يا عم، هذا مهر ابنتك، أو: يا خال، سمعان يطلب القرب.
الفقير لم يخرج إلا بجلبابه، ولم يترك إلا أُمًّا عجوزًا صلبة قالت:
ـ لا تحمل هَمًّا.
وأخفت دمعتها، ربتت على ظهر المرتحل بيد قوية، وقالت:
ـ يا صاحب الدنيا.. ارزق الفقير نور الطريق".
من عاداته أنه إذا دخل في الحكاية لا يرد عليّ إذا قاطعته، يشير بيده، أو يربت على ركبتي بحزم أن اصمت.
"ظلت أكف البلاد تتقاذفني، والرزق يضيق يضيق حتى كاد أن يقتل الحلم المستكن داخل صدر الفقير بابنة سمراء صغيرة، لها شعر أسود طويل، وعينان سوداوان، وبشرة ناعمة كورقة الوردة، يجلسها على رجله داخل قارب صغير لا يحب شط النهر، ولا يهتز بالصغيرة حتى لا تخاف.
ظلمت نفسك يا سمعان بالحلم، تحلم بالزواج وأنت الجائع؟!
لكن هل كان أحد يسوقني من طوق الجلباب يا حفيد الشيخ إلا صاحب الطريق؟ هل كان أحد سواه يقول: تقاذفيه يا أكف البلاد بضيق الرزق حتى يصل.
استغفر يا سمعان لجهلك أيام كنت تعترض ـ وأنت الجاهل ـ على خواء بطنك، اعتذر يا ساذج عن سوء الظن. خبأت حلمك حتى لا يُعلم به، فيكيد لك من لا تعلم شر شيطانه كيدًا، وقلت: يا أكف البلاد حسبي من الحلم ألا أبيت جائعًا.
وخشيت أن تظل هكذا تعد الشمس الطالعة، وتحسب الشمس الغاربة، وليس ثمة ما هو أسرع من الزمن يا حفيد مولانا، وكل يوم عرس يقام، خشيت أن ترجع لتجد كل البنات قد تزوجن، ولا تجد واحدة تغني أغنية عرسك، وتقول لك وأنت خارج من البيت والبنت على ذراعك:
ـ لا تتأخرا.. وخلِّ بالك حتى لا تخاف البنت من اهتزاز القارب.
اشكر جوعك يا سمعان، واشكر فقرك، وصفعات أكف البلاد، وابن الحلال الذي حكيت له شقاءك فحملك إلى الصحراء على ظهر سيارته.
نزلتُ فأطعموني، وسمعت بالشيخ على كل لسان، سألتُ عنه، ثم قلت له:
ـ أريد أن أنهل من بركتك.
وقلت في نفسي:
ـ وأن أجد المأكل والمأوى.
رحب بي جدك، بنفسه جهز لي مكان العيش، وظللت مقيما معه، بعد حين قال لي:
ـ وضعت قدمك على عتبة الطريق، منتصف الطريق أن تنزع من صدرك صورة البنت السمراء، والقارب ، وآخر الطريق عند آخر النهر".
"ولا بد يا عم سمعان أنك نزعت الحلم من صدرك منذ زمن".
أشاح بوجهه إلى البعيد، وهبت نسمة لم أحسها، لكني رأيتها تعبث بطرف ثوبه فرفرف، قال:
"زمن طويل مر.. ولم أصل إلى منتصف الطريق".

- 2 -

صبيحة أن أتم عامه الثلاثين في رفقة جدي وجدت سمعان متهللا ومنشرحا كما لم أره من قبل.
قال: "اليوم أرجع".
تعجبت.
"ترجع؟! إلى أين يا عم سمعان؟ وهل لك مكان سوى هنا؟!".
قال: "سأسميها (نور).. يا كف الطريق اطو المسافة الطويلة حتى أرجع لأمي العجوز, وأقول يا أُمّ, الفقير عاد غير فقير, سمعان يملك ما يدفعه مهرًا لفتاة سمراء، تطرح له النور في حجره بنتًا صغيرة بشعر أسود طويل وعينين سوداوين, يجلسها على رجله في القارب الذي لا يعرف أي شط, ولا تخاف الصغيرة من اهتزازه".
"سترحل يا عم سمعان؟".
قال: "عقب صلاة الفجر أجلسني جدك أمامه :
ـ عُد يا سمعان.
ـ هل فعلتُ ما أغضبك مني؟
ـ أضناك الطريق وأضنيته وما قدر على وأد الحياة داخل صدرك.
ـ حاولت ولم أترك وسيلة.
ـ عد يا سمعان وانطلق من البداية, الطرق عديدة, وقدرك السير في الطريق الأصعب".
"سترحل يا عم سمعان؟".
قال: "ابنة الخال طيبة.. ابنة العم جملية.. الغريبة تعيش".
"سترحل؟".
قال: "الآن أملك المهر, أغدق عليّ جدك, أملك ما أدفعه مهرًا لأربعة".
"سترحل؟ وتتركني؟".
قال: "سأختار السمراء حتى تمنحني (نور) سمراء كما أحبها, سأختار ابنة الخال, الخال صياد, ولدى الصياد قارب, أجلس فيه, وتجلس (نور) في حجري, ونمضي مع تموجات النهر السائرة إلى الفرح".
ظل شاردا ينظر إلى البعيد فلم ير دموعي التي سقطت فأنبتت صبارًا شائكا على طول الطريق.
أنا الذي أوصله هذه المرة, أُمسك حبل البغلة بيدي وأسير أمامه, وهو غير قادر على الكف عن الابتسام.
قال: "سأركب بطن السيارة حتى القطار وأركب بطن القطار حتى حضن أمي التي قالت :
ـ سأعد الغداء وأنتظرك على عتبة الدار.
الآن أراها جالسة تنتظرني, كعادتها لن تأكل حتى أعود, تأخرت عليك يا أم, ستضطرين إلى إعادة تسخين الغداء".
لكنه انتبه فجأة بعد أن ودعته واحتضنته وأغلق من الدخل باب السيارة التي بدأت في السير, فأخرج جذعه كله من شباكها.
قال: "أخشى أن تكون ابنة الخال الصياد قد خُطبت يا حفيد الشيخ".
أشرت له برأسي ويدي بقوة مؤكد أن لا, أخفى التراب الذي أثارته عجلات السيارة ابتسامته التي اتسعت وهو يرجع بجذعه إلى الداخل, ويختفي.






نشرت بجريدة أخبار الأدب

الخميس، ١٩ يوليو ٢٠٠٧

الأحد، ١٥ يوليو ٢٠٠٧

العمود


اعتبارا من الثلاثاء القادم 17 يونيو أبدأ بإذن الله كتابة مقال أسبوعي في جريدة "الدستور اليومي" كل ثلاثاء، على شكل عمود صحفي، وسوف أقوم بنشر المقالات على مدونة جديدة اسمها "العمود"، يوم الأربعاء من كل أسبوع
دعواتكم

الثلاثاء، ١٠ يوليو ٢٠٠٧


وجدت مصباح علاء الدين.
لم أذهل، منذ سراويلي المبتلة وأحلامي معطلة عليه.
يعلوه الغبار كقلبي الذي لم أقابله منذ أزل.
يبهرني، يشدني.
أبحث عن حلم من الأحلام التي كنت قد دفنتها حتى حين، أحفر، أنقب.
كل الأحلام في صدري موءودة.
بوهن أحك عنق المصباح، ينبهني الجنيّ:
"مطلب واحد فقط".
دون تفكير طلبت أحلامي القديمة.

الثلاثاء، ٣ يوليو ٢٠٠٧

باعتباري أزهريًا قديمًا


مدرسو الأزهر - لمن لا يعلم - هم بؤس شديد يمشي على قدمين (أو أقدام)، وهم التطور الطبيعي لمشايخ الكتاتيب، ولمقرئي المآتم والمقابر، الذين يتناولون أجورهم غالبا عن طريق المقايضة، فرخة محمرة، صينية أرز معمر، طاجن بطاطس باللحمة الضاني، وهذا في وقت سابق كان جزاءً وفاقا، يرضي المشايخ القدماء في القرى والنجوع، لكن مع تطور الزمن، وظهور العملات الورقية، وإلحاح العصر في ضرورة التعامل بها أيقن مدرسو الأزهر الفقراء أن مرتباتهم الهزيلة لا تساوي الأجور العينية القديمة، ولا تكفي لجلب مثلها من سوق باعته لا يرحمون ولا يقدرون الناس حق أقدارها

علم مدرسو الأزهر من وسائل الإعلام التي ظن نظام الحكم في مصر أنها لا تصل إليهم لفرط تطورها أن زملاءهم من مدرسي المدارس الأميرية المسماة بمدارس وزارة التربية والتعليم حصلوا على كادر خاص، فعقدوا اجتماعاتهم، واستشاروا، واستفهموا عن معنى كلمة كادر وعن سر إضافتها لكلمة خاص، وحين أشار عليهم أولو العلم منهم، أن في الأمر مؤامرة، وأن هناك زيادة في رواتب زملائهم لن تصل إليهم جن جنونهم، وأضربوا عن تصحيح امتحانات الإعدادية والثانوية، مما جعل الإمام الأكبر (لا أحد حتى الآن يعلم أكبر في ماذا بالضبط) يجتمع بهم، ويحلف لهم بالله العظيم أن الكادر سيشملهم لاحقا، إلا أن أصحاب الرأي منهم والنهى، قالوا : نحن مستمرون في الإضراب يا مولانا، وأصحاب الملكات الشعرية والنظمية منهم ألفوا الهتافات ضد عمامة الإمام، وكان من أبلغ الهتافات

فين الكادر يا إمام ؟؟؟ فين الكادر هو حرام؟؟؟

وطبعا لأنه من المعلوم بقوانين التعليم بالضرورة أن الكادر ليس حراما، فقد جرجر "الأكبر" أذيال جبته الفضفاضة وولى هاربا

إلا أن الرئيس "الأكبر" حسني مبارك رضخ فورا، ومنح مدرسي الأزهر الكادر الخاص وطبقه عليهم، من باب أن المساواة في الكادر عدل

لذا وجبت مني التهنئة، بصفتي أزهريا قديما، بعض أبطال هذا الإضراب من المدرسين درسوا لي، وكنت أنا وزملائي نستخف بهم، ونعلق لهم الأذيال الورقية في مؤخرات بنطلوناتهم، ونطلق عليهم الأسماء الماجنة، ولا نسكت حين يجعلون أحد الأولاد يقف على الفصل ليكتب أسماء المتكلمين، وحين يأمروننا بفتح أيادينا حتى نضرب، نرفض وكأن باطن اليد عورة، وكنا ننتظرهم أمام المدرسة ويخوفهم الأشداء البلطجية من زملائنا، وكان المدخنون منا يجاهرون أمامهم بشرب السجائر ويتعمدون النفخ في وجوههم، لن أذكر بالطبع بعض الزملاء الذين ضربوا بعض المدرسين، ولا بعض الزملاء الذين تعمدوا إفساد حياة بعض المدرسين بطريقة أو بأخرى

بمجرد تخرجي من الجامعة كان المصير الطبيعي لي - لولا ستر الله - أن أعمل مدرسا في أحد المعاهد الأزهرية، لكن الحمد لله الذي أنجاني من هذا المصير المظلم

تحية حقيقية لأول مرة لمدرسي الأزهر، الذين أثبتوا أنهم قادرون على لي عنق النظام، والحصول على حقوقهم، لو كنا نعلم أنكم هكذا لما وجدنا أي غضاضة في أن نقف لكم عند دخولكم إلى الفصل، ولراجعنا أنفسنا أكثر من مرة قبل أن ندبدب بأقدامنا في حركة جماعية أول ما تديرون وجوهكم إلى السبورة