وهذا هو نص المقال:
عمل أختلف معه.. يجبرني على الانحناء
عندما تقرأ على رواية عنوانا هو (سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء) فأغلب الظن أنه سيستوقفك. وهذا ما حدث معي.
فهذا العنوان لرواية "محمد صلاح العزب" الحاصلة على الجائزة الأولى في مسابقة سعاد الصباح، هو ما شدني لقراءتها, فبغض النظر عن شارة الجائزة على الغلاف, وجدت هذا العنوان قصيدة شعرية في حد ذاته، قطعة شعرية مكثفه في سطرين ففتحت الكتاب وقرأت.
لم تخيب ظني السطور الأولى والصفحات الأولى, لغة شعرية كثيفة ليس فيها لت وعجن وثرثرة, وفي الوقت نفسه بسيطة, براء مما في بعض الشعر من وعورة واستغلاق.
هي لغة سرد لا حكي, سريعة كشحنات البرق, فيها تقنية عالية تدور على مستويين: اللحظة الحاضرة بضمير المخاطب, والماضي بضمير المتكلم، وحين يقترب الماضي بحيث يوشك أن يلمس الحاضر يختم الكاتب بناءه السردي بالمخاطب كما بدأ.
هذا اللغة الشعرية والتمكن التقني هما ما يجعلك تلهث حتى النهاية وراء رؤية للوجود تصيبك بجزع ثم فزع متنامٍ, وتحاصرك بكل إفرازات الجسد في إصرار يجعلك تتململ في النهاية.
فبطل الرواية (عدو شمس) قبيح الوجه, متقيح الوجدان, جعله الإحساس بعداء كوني وجماعي له عدوا للبشر, وجعله تعذيب أبيه الوحشي له منذ طفولته المبكرة إنسانًا شديد الجبن كثير الاسترابة في كل أحد وكل شيء, ضعيف النفس مهلهلها, يبول على نفسه في الفصل وفي الفراش حتى ناهز الرجولة.
واعذرني يا قارئي العزيز على هذه الإشارة الأخيرة؛ لأنني كان يجب أن أذكرها لكونها الإفراز الجسدي المحوري في الرواية, ودلالته واضحة, أما بقية الإفرازات فيسعدني عدم ذكرها.
هذا الإنسان عاجز عن التواصل مع البشر, وبالطبع النساء, المرأة الوحيدة التي حاول أن يتواصل معها كانت عاجزة مثله, لكنها مشلولة الجسد لا الروح, إلا أن الظروف لم تسعفه على كل حال على إتمام هذه الصفقة بين أزمتين وجوديتين من ذكر وأنثى.
أما لماذا كان أبوه يعذبه -بوحشية نادرة المثال في تاريخ الأدب- فنعرف مع فرار الصفحات من الأصابع وبقاء العين مشدودة بل مصلوبة على رؤاها المفزعة, أن الأب عنده شك يقارب اليقين في أن هذا التعيس ليس ابنه, لهذا فهو يتفنن في تعذيبه هو وأمه بحنكة وسعة خيال يحسده عليهما عتاة الجلادين، ولا تدانيها إلا مقدرة الكاتب على تجسيد هذا الرعب.
ولكن ما ذنب القارئ؟ هذا سؤال مهم لأنه لا يمس تفصيلة في الرواية بل هو قضية جمالية, أي إنه يفتح نقاشات حقيقية وعميقة في علم الجمال, وهي في ظني لا تتعلق برؤية الكاتب, بل عملية صهره لهذه الرؤية وصبها في القالب المنشود, أو ميزان الذهب الذي يوازن بين قبح ما يراه الأديب ومقدار تسريب هذا القبح والوصول به للدرجة التي هي ذروة الجمال الفني, دون أن تتجاوز هذا الخط الرهيف فيختل الميزان.
فأيًّا تكن الرواية: عبثية عدمية, سادية لا يهم, المهم هو كيف تجعلها سائغة للاستهلاك الأدبي, على سبيل المثال, الرواية هنا كافكاوية, بمعنى أنها تصور فردًا وحيدًا ضائعًا في محيطٍ كلُّ ما فيه ومن فيه يضطهده.
لكن العالم الكابوسي للسيد (ك) بطل روايات كافكا -أو كافكا نفسه- ينقله مبدعه همسا, ويعرف كيف يكون هادئا وهو يصرخ.
لكن -للأسف- هذه الرواية الجميلة للأديب محمد صلاح العزب تشوبها مبالغات ميلودرامية, أهمها شخصية الأب المتوحش, المتفرغ تماما لفنون تعذيب لا تقدر على تحمله النفس ولا أقصد نفس الابن وأمه، بل نفس القارئ!
وهناك أيضا نوع آخر من الإفراط الفني يتمثل في الإصرار على ذكر كل ما يخرج من الجسد من سوائل, وكان يمكن أن يكون ذلك مقبولا في إطار رؤية الكاتب وشخصية بطل العمل, لولا أنه يتكرر بكثرة غير مستساغة وغير مبررة بحيث يفقد شرعيته الفنية.
وأشد هذه المبالغات هولا خاتمة الرواية, فالبطل الذي طرده الأب من البيت يهيم في الطرقات حتى يجبره الجوع والبرد على العودة، ويدخل ليجد أخته في فراش أبيه.
وبعد, لقد قسوت كثيرًا على كاتب موهوب أبدع رواية ناضجة وهو في العشرين.
وأكبر دليل على موهبته –علاوة على الفوز بجائزة مرموقة– أنه يجبرك على مواصلة القراءة مهما كثرت اعتراضاتك وتنامت, فالعمل يأخذك, ولا يفلتك حتى ينتهي هو منك.
وما ظني أن تحفظاتي تمس قدرة الكاتب, بل اختياره الفني في هذا العمل بالذات, وأحسب أن ما سيأتي سيكون أكثر إبهارًا وأقل جموحًا, بحيث لا أملك إزاءه إلا كتابة قصيدة شعر لا مقالة نقد, قصيدة آمُلُ أن تأتي رائعة وموحية كذلك العنوان الجميل:
سرداب طويل..
يجبرك سقفه
على الانحناء
وحقا, الكتاب وعنوانه, رغم كل التحفظات.. يجبرك على الانحناء
بهاء جاهين
bahaajaheen@yahoo.com