الاثنين، ٣٠ أغسطس ٢٠١٠

سيدي براني - الشروق



سيدي برّاني

ـ 1 ـ

حين مات جدي للمرة الأولى، لم يكن يملك سوى عصا من خشبٍ رديء وجلباب طويل.
حفروا له على عجلٍ حفرة غيرَ عميقة بجوار جثمانه تماما، فتعفر وجهُه واختفت ملامحُه.
خيّطوا الجلباب على جسده من أسفل، وتحيروا في رأسه، فوضعوه في الكيس القماشي الذي اعتاد أن يحمل فيه طعامَه.
دفعوه حتى سقط في الحفرة، وأهالوا التراب على جسده وانصرفوا دون أن ينظر أحدُهم وراءه.
طفل صغير رجع بعد قليل بحثا عن ضفدعة يسمع نقيقها ولا يراها، وجد الجلباب والكيس القماشي مفرودَين على سطح الحفرة الذي ظل ممهدًا كما تركوه.
ناداهم الطفل فرجعوا، وحين رأوا الملابسَ طفت وحدها على وجه الأرض، دون الجسد الذي كان بداخلها، قالوا: هذه معجزة.
بنوا فوق القبر ضريحًا، يزوره المريض والمحتاج والمربوط والتي لا تلد، دون أن يفكروا في نبش التربة ليتأكدوا من وجوده داخلها.


ـ 2 ـ

لا أحد يعلم لجدي أبًا ولا أمًّا، وجدوه متمددًا على شاطئ النهر، يمد يده يغترف من الماء ويشرب وهو يبتسم.
عمره أربعة أعوام، وله شارب ولحية مكتملين كأنه شاب في العشرين.
هذه اللحظة تحتفظ بها ذاكرته جيدًا، أقبلوا عليه وحملوه إلى بيت كبير القرية، فأتى له بخادمة عجوز، وأمرها أن تطعمه فرفض، واكتفى بشرب كثير من الماء، حاولت الخادمة أن توقفه على قدميه حتى يسير فلم يستطع الوقوف، ولم يتكلم، فقط يبتسم ابتسامة واسعة.
اجتمع عدد كبير من رجال القرية، وجلسوا حوله وهو متمدد بينهم، يظنون أنه لا يفهم ما يقولون.
قال بعضهم إنه ليس إنسيًّا، فرد عليهم آخرون بأنه طفل مسحور، واعترض العقلاء وقالوا ليس مسحورا ولكنه ابن خطيئة ألقته أمُّه بعد وضعه، وقال عرّاف القرية إنه سيكون سببًا لهلاكهم، فاقترح بعضهم قتله، وقالوا: حتى لا يفتن الناس، فاعترضت جماعة وقالوا: لا تقتلوه، وأعيدوه إلى شاطئ النهر ولا علاقة لكم به.
رجل الدين قال إن حالته لم يرد ذكرها في الكتب المقدسة، ولهذا فهو شيطاني وليس إلهيا، وقال الطبيب: هذه حالة غير علمية، وربما يكون هذا الطفل بداية تحوّل لا تحمد عقباه في السلالة البشرية.
يتحدثون، ويطيلون النظر إليه، يفردونه أمامهم، ويعبثون في جسده، يحملونه ويقذفونه في الهواء، متحسسين أنفه وعينيه، كلهم جذبوه من لحيته وشاربه ليتأكدوا من أنهما حقيقيين، وفتح أحدُّهم فمه وضغط على أسنانه ليختبر قوتها. كل ذلك دون أن ينجحوا في جعله يتخلى عن ابتسامته.
مر بنفس الجلسة أكثر من مرة في أكثر من قرية، ومازال يذكر تفاصيل كل مرة، فظل يتأمل ملامحهم التي يجدها متطابقة، ويسمع أصواتهم كصرير في أذنيه.
لم يتوصلوا إلى قرار في اليوم الأول، وأنهكتهم المناقشة، فأعطوه للخادمة العجوز ليبيت معها الليلة، وانصرف كل منهم إلى بيته، واتفقوا أن يجتمعوا في الصباح التالي ليقرروا مصير الطفل الغريب.
حملته الخادمة، كان ثقيلا، لكنها أمسكته بيديها فقط، حريصة ألا يقترب جسده من جسدها، وقطعت المسافة الطويلة من بيت كبير القرية إلى غرفتها المواجهة للنهر وهي خائفة ومتعبة، تنقل قدميها بصعوبة، وتجلس لتستريح كل قليل.
تريده أن يكف عن الابتسام أو أن يبكي كالأطفال في سنه لتطمئن، لكنه لم يفعل، فضغطت على جسمه بقوة، وقرصته بأصابعها النحيلة في جنبه، فدفع يدها في رفق وهو يحدق في عينيها مبتسما حتى كفّت.
فكرت أن تتركه في وسط الطريق، وفكرت أن تغرقه في النهر لتتخلص منه، وقالت في نفسها إنها لو أضاعته فلن يهتم أحد به، وسيصدقونها لو اخترعت لهم أي حكاية بشأنه، ستقول لهم إنه تركها وجرى، أو إنه تحول إلى جني وقفز في النهر، أو إنه اختفى فجأة، لكنها خافت من عينيه اللتين تحدقان في عينيها مباشرة، وانتهت إلى أنها لا تستطيع قتل طفل يبتسم بهذه الصورة.
دخلت غرفتها، وأضاءت المصباح بسرعة، وضعته على فراشها، وظلت واقفة بجواره، شعرت بالجوع وخافت أن تنشغل عنه بصنع الطعام، خلعت شالها ووضعته على وجهه لتخفي عينيه، فدفعه بيده، حاولت أن تضحك له وأن تُلَعِّب ملامحها، حملته وقذفته في الهواء حتى يضحك، دغدغته في قدميه وتحت إبطيه فلم يضحك، اتسعت ابتسامته قليلا فقط، خجلت أن تبدل ملابسها أمامه، فجلست بجواره على حافة السرير حتى غلبها النعاس.
استيقظت بعد قليل على بلل أسفل مؤخرتها، قامت مفزوعة فوجدته قد تبول على الفراش، ابتسمت رغم بلل ملابسها، ونزعت عنه ثوبه، فظهر شعر كثيف في صدره وعانته، ورأت أمامها عضوًا مكتملا لرجل، تراجعت وهي خائفة، لكنها لم ترفع عينيها عنه، وشعرت بالرغبة.
أحضرت إناء به ماء وغسلته من أسفل، فانتصب عضوه في يدها، تحاشت أن تنظر إلى عينيه، وأطالت عملية الغسل، ثم نظرت إلى وجهه فوجدته مبتسمًا وعينيه نصف مغمضتين، خلعت ملابسها ثم صعدت فوقه حتى شعرت به داخلها، وبدا هو مستمتعًا يتحرك بمهارة من اعتاد المضاجعة.
أيقظتها الشمس حين سقطت على عينيها، قامت تتمطى في كسل وهي تمرر يديها على نهديها، انتبهت لعريهما فألبسته ملابسه التي جفت، ووقفت تغتسل أمامه وهي تغني وتصفف شعرها، وهو يتأملها مبتسمًا فشعرت بالرضا. فوجئت بجسدها مفرودا أكثر من الليلة السابقة، وبشعرات سوداء جديدة وسط شعرها الثلجي، ارتدت جلبابا نظيفا وحملت الطفل وخرجت لتجد أكثر أهل القرية مجتمعين أمام بابها، يريدون أن يشاهدوا الطفل ذا اللحية الذي لا يأكل ولا يضحك ولا يبكي ويكتفي بالماء فقط.
حين تجمهروا حولها خاف منهم، غطت وجهه بشالها حتى لا يحدقوا فيه، وضمته إليها بقوة وأعطتهم ظهرها لتحميه من عيونهم فشعر بالطمأنينة، والنساء يقتربن منها فلا يرين إلا وجهها، فيسألنها:
ـ كيف صغرتِ هكذا؟
هرولت وهم يسيرون بجوارها، وحين وصلت إلى بيت كبير القرية والرجال مجتمعون لديه، دخلت فطلبوا منها الطفل، فقالت:
ـ ماذا ستفعلون به؟
نهروها لأنها خادمة ولا يجب أن تتكلم في مجلس الرجال، تشبثت بالطفل ورفضت أن تتركه لهم، وأمسك هو بأنامله الصغيرة ثيابها وجذبها إليه بقوة خائفًا أن تتركه، فأخبروها باتفاقهم على أن يحملوه ويتركوه في القرية المجاورة أمام الشاطئ؛ لأنهم علموا أن أهل القرى السابقة كلهم فعلوا هذا. وُجد عاريًا في القرية الأولى على شاطئ النهر، فألبسوه، وظلت كل قرية تلقيه للتي تليها حتى وصل إلى هنا.
بكت العجوز، وجرت بالطفل من أمامهم، فلم يهتموا بها، وقالوا:
ـ العجوز أراحتنا.
في الخارج جرى أهل القرية خلفها، فجرت من أمامهم، ولم يستطيعوا اللحاق بها.
دخلت غرفتها وأغلقتها أمامهم. وضعت الطفل برفق على الفراش، ثم خرجت وهي تمسك في كل يد سكينا، وهددت بقتل من يقترب منهم.
تفرق أهل القرية وقالوا إن الطفل مسحور وإنه أصاب العجوز بالجنون.


ـ 3 ـ

لم تصدق العجوز في البداية أن يكون طفلا رغم ملامحه الطفولية وتبوله في الفراش، توقن أنه قزم بالغ عاجز عن الكلام والسير، وأن أحدًا غيرها لم يكشف هذا. أخفته في حجرتها ولم تخرج به مطلقًا، وحين تحلق له شاربه ولحيته ويبتسم يبدو بريئا كرضيع.
في البداية حفّظته اسمها فكان يناديها به دون أن يجيد نطقه، وعلمته بعض الكلمات، وعوّدته بعض أنواع الطعام، وأتقن السير ممسكًا بيدها، وفي أيامها الأخيرة معه صار يتكلم ويأكل ويسير.
تضاجعه عدة مرات في اليوم، ويقذف داخلها فلا تفكر لحظة أنه طفل. حاولت أكثر من مرة أن تسأله عن اسمه أو عن حياته قبل أن يأتي إلى القرية، فلم يبد أنه يفهمها. تود أن تناديه باسمه لكنها لا تعرفه، تفكر أن تمنحه اسما جديدا لكن تتراجع حتى لا يصير له اسمان. تستغرب من نمو جسده، ومن أنه لا ينام إلا قليلا، لكنها أحبت هذا حين أيقظها ذات ليلة قبل أن يلدغها ثعبان تسلل من أسفل باب الحجرة.
تجلس أمامه عارية تتأمل التغيرات التي حدثت في جسدها، نبتت لها أسنان كاملة قوية، عاد شعرها كله إلى لونه الأسود القديم، طالت قامتها مرة أخرى، اختفت التجاعيد من بشرتها، استعاد نهداها تماسكهما، وصار باستطاعتها أن تمشي طويلا، وأن تجري، وأن تحمل أي شيء ثقيل، بعد أن كانت تنقل إناء الطعام بصعوبة. لكنها لم تصدق نفسها حين نزل منها الدم أول مرة، ظنته نزيفًا، وحين عاد إليها في الشهر التالي كانت مفاجأتها قوية، ولم تدر ماذا تفعل.
أهل القرية صاروا يخافون المرور أمام حجرتها، يقفون بعيدًا يراقبون الطفل وهو يخرج ليلعب وقد أصبح أطول بشارب ولحية نابتين إذا لم تحلقهما له الخادمة.
النسوة أصررن على معرفة سر عودتها إلى شبابها، فتسللن ليلا ونظرن من فرجات الباب، ورأينها وهي تضاجع الطفل.
لم يعد أحد يجعلها تخدم في بيته، الرجال قالوا إنها مجنونة أو مسحورة، والنساء خفن على رجالهن من جمالها الذي عاد، فصارت تنزل من حجرتها إلى السوق مرة كل أسبوع تتسول طعامهما، وتتحايل على مراودة الباعة لها عن نفسها، لكنها في المرة الأخيرة تركت بائع الأقمشة يقبّلها، وأخذت منه قطعة قماش وإبرة وخيطا، وعادت إلى الحجرة تحوك ثوبًا جديدًا للصغير، بدلا من ثوبه الذي قصر إلى ركبتيه.
مرة أخرى انقطع عنها الدم، أيقنت أنها ستعود عجوزًا مرة أخرى، نظرت إلى ملامحها وشعرها، فلم تجد تغيرًا، انتظرت الشهر التالي فلم يأت الدم أيضًا، بعدها بثلاثة أشهر أكد لها حجم بطنها أنها حامل.
انتقل خبر الحمل بسرعة داخل القرية، تناقلته النسوة، ثم نقلنه إلى الرجال في لحظات المضاجعة رغبة في القضاء عليها، حتى الأطفال ظلوا يتهامسون به في حلقات الدروس.
اجتمع الرجال في بيت كبير القرية وقرروا قتل الخادمة بعد أن يعرفوا الفاعل.
أحضروها موثقة إلى الساحة، واجتمع كل أهل القرية، رفضت الخادمة في البداية أن تذكر اسم الفاعل، لكن قانون القرية هو تعذيب الزانية حتى تعترف، أحرقوا شعرها وأذنيها ففقدت الوعي أكثر من مرة، وفي النهاية أشارت بسبابتها إلى بائع الأقمشة فاقتادوه معها، إلا أنه ظل يصرخ بأنه قبّلها فقط، فألصق التهمة بنفسه أكثر، طبقوا عليهما قانون السفاح: جردوهما من ملابسهما، وقطّعوا أطرافهما الأربعة، علقوهما في نخلتين متجاورتين، بعد أن دهنوا أماكن البتر باللبن والعسل فتعفنت، وتجمعت على جسديهما الحشرات والديدان، ونهشتهما الطيور الجارحة.
في البداية مات بائع الأقمشة، ثم ماتت الخادمة وهي شابة بملامح هادئة، كأنها نائمة فقط، لم يبد عليها أي ألم، وعلى شفتيها ابتسامة تشبه ابتسامة ذكر أقام لديها عامًا كاملا، عشقته وضاجعته كثيرًا حتى حملت منه، دون أن تفكر لحظة أن أب جنينها لم يتجاوز الخامسة من عمره.


ـ 4 ـ

بمجرد أن صدر الحكم بموت الخادمة وبائع الأقمشة جرت النسوة من الساحة إلى غرفة الخادمة، كل منهن تمني نفسها بكفالة الطفل. العجائز كن في المؤخرة يجرين بأقصى ما يستطعن، والشابات واللواتي في منتصف العمر يتدافعن بجذب الشعر واللذع في الأماكن الحساسة. وحين وصل الجمع إلى باب الغرفة الموصد تشاجرن حتى تمزقت ملابسهن وشعورهن، صرن أنصاف عرايا يسيل الدم من أنوفهن وأفواههن وأجسادهن.
لم يتوقفن إلا بعد أن ماتت معمرة القرية.
تسللت من وسط المعركة على يديها وقدميها، لامست باب الحجرة وهمت بدفعه، فوقفت فوق جسدها عشرون امرأة وحطمن عظامها ورأسها بأقدامهن.
حضر الرجال، وحين رأى كبير القرية النسوة عرايا، أمر الرجال أن يديروا وجوههم إلى الجهة الأخرى، والنسوة أن تحاول كل منهن ستر جسدها.
قضى بأن تكفل كل منهن الطفل شهرا، فتعالت أصواتهن بالشجار على من تبدأ ومن تليها، حصر الرجل بيوت القرية فوجدها مائة وخمسين بيتًا، وقال تقترع النسوة على ترتيب الكفالة، لكن العجائز هددن في السر بين النساء بفضح غرض رعاية الطفل، فطلبت النسوة من كبير القرية أن يكون الترتيب تنازليا حسب السن، الكبرى فالأصغر فالأصغر، فتقدمت أكبر عجوز في القرية، ودفعت الباب، ثم خرجت تضم الطفل إلى جسدها وهي تضحك، ثم هرولت به إلى بيتها.


ـ 5 ـ


لم يدرك جدي أنه يحب الخادمة العجوز إلا وهو يضاجع آخر امرأة في القرية.
ظل يبحث مع كل واحدة عما كان يشعر به مع الخادمة، وحين لا يجده يقول لنفسه: ربما مع التالية، وبعد نهاية المائة وخمسين بيتا تجاوز الطفل السابعة عشرة من عمره، وبلغ طوله وحجمه ضعف الرجل العادي، ووصلت لحيته إلى ركبتيه، وزاد عدد سكان القرية مائة وخمسين طفلة، الفرق بين عمر كل منهن ومن تليها شهر واحد، كلهن يشبهن خادمة اتُهمت بالحمل سفاحا من بائع أقمشة ظل يبكي مدافعا عن نفسه وقُتلا معا.
قرر أن يعود إلى حجرة الخادمة التي دفنوها فيها، فلم يجد إلا قبرًا متهدمًا، بنى فوق أنقاضه بيتًا صغيرًا، وحفر قناة صغيرة بين البيت والنهر فتعجب الناس دون أن يتكلموا، لم يعرف الرجال علاقته بنسائهن، وقالوا إن بركته هي التي تعيد الشباب لنسوة البيوت التي سكن فيها، وكانوا يقبّلون يديه إذا لقوه في الطرقات، وحين استقل ببيته البعيد لم يسمح لأي امرأة أن تزوره، وتمر المياه من القناة إلى داخل البيت فيشرب منها ولا يأكل.
يصادق الطيور والحيوانات ويفهم لغاتها، وتسير معه في موكب مهيب في القرية. وعندما يجن الليل يخلع ملابسه ويستحم في النهر، تتلصص عليه النسوة فيقذفهن بالأسماك الكبيرة، يأخذنها ويصنعن منها وجبات لأبنائهن.
ذات ليلة قرر أن يقيم في النهر، فقضى فيه عدة سنوات لا يخرج من مياهه، يصادق الأسماك، وأصحاب القوارب والصيادين، وفجأة قرر الخروج، فخرج، ثم اختفى من القرية. ظلت النسوة يَحُمْن طويلا حول بيته وحول مكانه في النهر حتى تأكد لهن اختفاؤه.
قال أهل القرية إن النهر استرده كما ألقاه على شاطئهم ذات يوم، وقالوا إنه ذكرُ عروس البحر، وقال بعضهم إنه إنسي عادي لكنه غرق في النهر وذهب جثمانه بعيدًا.
بعد سنوات عاد إليهم من جديد، من النهر مرة أخرى، ولكن في قارب كبير محمل بالعطور والحلي وأشياء كثيرة لا يعرفونها، حلق لحيته وارتدى ملابس ليست مألوفة لهم، وحفر على صدره وشمًا ظاهرًا جدا للخادمة.
اقتربت القرية من القارب بحذر، وقف بينهم وقال إن من يريد شيئًا سيأخذه، لكن في مقابل أن يدفع كل ما يملكه ثمنا له: المال والأرض والعقار. ضحك منه الرجال، وقالوا:
ـ من يدفع كل ما يملك في أشياء كهذه؟
لم يرد عليهم، وانتظر.
في اليوم التالي تأتي كل امرأة وهي تجر رجلها فتجبره على أن يدفع كل ما يملكونه في غطاء سرير من الحرير، أو قلادة من النحاس، أو حذاء خشبي، أو ساعة رملية.
حين أصبح وحده يملك القرية بكل ما فيها طردهم منها، وصار يُمضي وقته في بناء سور عال حولها، وبعد أن أتم بناء السور، صار يمشي بالداخل عاريًا، ويرسم على السور من الداخل صوره وهو يضاجع الخادمة، في كل مراحلها العمرية، يكتب اسمها تحت صورتها، ولا يكتب شيئا تحت صورته، لأنه لا يعرف اسمه، ظل يتذكر من قابلهم في القرية وفي سفراته الكثيرة، لكل منهم اسم، حاول أن يجد لنفسه واحدًا فلم يستطع، انشغل كثيرًا، وحين فشل مسح اسمها.
أهل القرية تفرقوا في القرى المجاورة، وأحيانا يعودون ليتلصصوا عليه، يسمع أصواتهم من الداخل، وهو يُمضي عمره في هدم بيوت القرية، يهدمها حجرا حجرا، ثم يلقي بالهدم في النهر.
شيئا فشيئا ظهرت شعيرات بيضاء كثيرة في شعره ولحيته الطويلة، وبدأ جسمه في الذبول. انتهى من هدم بيوت القرية جميعا عدا بيتها الواقع على الطرف، ثم حفر بطول القرية حفرة عميقة، لم يفهم من يتلصصون عليه لماذا يحفرها، حتى قالوا إنه جُن وأهملوه تمامًا.
يحفر بالفأس ويصعد فوق النخلة العالية ليرى ما فعله من أعلى، ويسوي حواف الحفرة بدقة شديدة.
في المرة الأخيرة صعد ورأى الحفرة تشكلت جسدا مهولا لامرأة فتية لها نفس ملامح الخادمة.
هدم السور، وأغلق مجرى النهر، ثم حوَّله بحيث يمر بالحفرة التي حفرها. تغير مجرى النهر وأصبح الماء يجري مسرعا ليدخل من طرفي قدميها إلى ما بين فخذيها، ثم يملأ جسدها ويخرج من فمها مواصلا طريقه نحو مصبه.
نبتت زهور كثيرة حول جسدها، وأصبحت هذه البقعة هي المكان المفضل للعشاق من كل القرى، ارتدى جلبابه، وحمل عصاه وكيس طعامه حتى يخرج من القرية، لكنه حين وصل إلى قدمها، سقط على الأرض، ومات.
أهل القرية تفرقوا منذ زمن، وسكن حول القرية وافدون جدد، فلم يعرفه أحد، تعجبوا من طول لحيته، كفنوه في جلبابه وكيس طعامه، دفنوه ووضعوا العصا شاهدا على قبره، حتى عادوا ووجدوا ملابسه فوق القبر.
بنوا فوقه ضريحًا، ولأنه مات عند قدم المرأة، ولأنهم لا يعرفون اسمه، أسموا ضريحه: "ضريح قتيل السيدة".

الخميس، ٢٦ أغسطس ٢٠١٠


مصر سكر زيادة


كنت أراها سادة، ثم قررت أن أغير رأيي وأراها سكر زيادة.
كنت أنظر إلى الـ90% الفارغ من الكوب، ثم قررت أن أركب نظارة كعب كوباية لأرى الـ10% الجميلة المترسبة في القاع.
مصر جميلة وعظيمة، إذا نحينا الحزب الوطني من الصورة، وتجاهلنا رجال الأعمال الفاسدين، ومعتادي الإجرام ومسجلي الخطر في سجلات الداخلية، واعتبرنا الداخلية نفسها غير موجودة.
مصر جميلة وكبيرة إذا تجاوزنا عن أعضاء مجلسي الشعب والشورى الحاصلين على العضوية بالتزوير، وإذا تغاضينا عن الوزراء الفاسدين والفاشلين والمتكسبين بمناصبهم، وإذا لم نتساءل عن رأي الشعب فيمن يحكمونه، ولا عن مصروف أبناء من يحكمونه، ولا بوستراتهم، ولا رغبتهم الحثيثة في وراثة التورتة.
مصر عظيمة جدا، إذا لم نقرأ صفحات الحوادث التي لا تخلو من جرائم من نوعية: عاطل يقتل أمه لرفضها إعطاءه 20 جنيها لشراء المخدر. وأبو ضحية بولاق يعترف: لست أنا الذي ضاجعت ابنتي وأنجبت منها بل شقيقها. وإذا لم نقرأ الجرائد القومية التي تصدر صفحتها الأولى بمانشيتات من عينة: النمو الاقتصادي بلغ معدلات غير مسبوقة متفوقا على أمريكا واليابان وساحل العاج.
مصر كبيرة، بغض النظر عن القمامة في الشوارع، بغض النظر عن أدراج الموظفين المفتوحة استعدادا لتلقي الرشوة، بغض النظر عن التحرش الجماعي في وسط البلد وشارع جامعة الدول العربية، والتحرش الفردي في المواصلات وأماكن العمل، بغض النظر عن أطفال الشوارع تحت الكباري وفوق الكباري وداخل الكباري، بغض النظر عن الأمثال الشعبية المحبطة من نوعية: اصبر على جار السو، والحرامي الشبعان أحسن من الحرامي الجعان، فيما يتعلق بحكم البلد.
مصر بديعة طوال العام إذا تجاهلنا أوقات الشد العصبي، مثل فصل الصيف بسبب الحر، وفصل الشتاء بسبب البرد، ورمضان بسبب الصيام، والأعياد بسبب المصاريف، ودخول المدارس بسبب الطلبات والامتحانات بسبب التركيز، والنتيجة بسبب أحمد زكي بدر.
والله العظيم مصر رائعة إذا لم نقف عند الأرقام والنسب المئوية مثل 7 ملايين عاطل، و9 ملايين عانس، و3 ملايين طفل عامل، و48 مليون يعيشون في العشوائيات، و3 ملايين مطلقة، و39 مليون تحت خط الفقر، و40 مليون مصاب بفيروسات الكبد المختلفة، و6 ملايين مصاب بالسرطان.
انس كل ما سبق، فربما تكون سادة، وربما يكون 99% من الكوب فارغا، لكن الـ1% المتبقية كافية لنغترف منها معا، لحد ما تخلص.